في زمن يحبس فيه تغيّر المناخ أنفاس المدن، تتسابق العقول لإيجاد سُبل تبريد لا تستهلك طاقة. لكن ماذا لو أن الحل لم يكن في أجهزة التكييف، بل في جدران البيت نفسه؟
تخيل سطح منزلك لا يعكس الحرارة فقط، بل يُفكّر، ويُدير انبعاثاته الحرارية بذكاء، ويوفر البرودة من دون أن يستهلك واطًا واحدًا من الكهرباء. ليس خيالًا علميًا، بل واقعٌ تفتحه مادة مبتكرة صمّمها الذكاء الاصطناعي لتعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمناخ.
يأتي هذا التطور بعد سنوات من البحث المكثف في كيفية «تبريد السلبي» للمباني، أي دون اللجوء إلى أجهزة كهربائية، في محاولة لخفض استهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية، لا سيما في المدن الحارّة مثل الرياض وبانكوك وريو دي جانيرو.
في مختبرات جامعة تكساس في أوستن، وبالتعاون مع جامعات من سنغافورة والصين والسويد، ابتكر فريق من العلماء أكثر من 1500 مادة فريدة تُدعى «المرسلات الحرارية الفوقية» (Thermal Meta-Emitters). هذه المواد ثلاثية الأبعاد لا تكتفي بامتصاص الحرارة أو عكسها، بل «تُبرمج» نفسها لتُطلق الحرارة في اتجاهات وأطوال موجية محددة بدقة.
البروفيسور «يوبينج تشنج»، قائد الفريق، يصف الأمر بقوله: «لقد أنشأنا خوارزمية تعليم آلي يمكنها تصميم مواد حرارية تتفوق على كل ما هو موجود. بات بإمكاننا تصميم خصائص حرارية لم تكن متخيلة من قبل».
الأمر المثير ليس فقط في التقنية، بل في فعاليتها المباشرة: في تجربة ميدانية، جُرّبت المادة على سقف منزل نموذجي وُضعت بجانبه أسطح مغطاة بدهانات بيضاء ورمادية تجارية. النتيجة؟ كان السقف المطلي بالمادة الجديدة أبرد بـ5 إلى 20 درجة مئوية بعد أربع ساعات من التعرض للشمس.
باحتساب الأثر في بناية سكنية نموذجية في مدينة حارّة، تشير الدراسة المنشورة في عدد يوليو من مجلة Nature، إلى أن استخدام هذه المادة يمكن أن يخفض استهلاك الطاقة بنحو 15,800 كيلواط/ساعة سنويًا، أي أكثر من عشرة أضعاف ما تستهلكه وحدة تكييف هواء واحدة سنويًا.
الأمر يتجاوز التوفير المالي، ففي ظل التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة العالمية، هذه المواد قد تمثل طوق نجاة للمدن التي تعاني «تأثير الجزر الحرارية»، حيث تحتبس الأبنية الخرسانية الحرارة وتحوّل المدن إلى أفران إسمنتية.
بعيدًا عن أسطح المباني، يرى الباحثون أن لهذه المواد استخدامات واسعة:
وفق الفريق البحثي، كانت العقبة الرئيسية أن تصميم مواد حرارية عالية الأداء كان يعتمد على التجريب اليدوي و«التخمين»، ما جعل تطويرها بطيئًا ومكلفًا. أما تقنيات التصميم السابقة فكانت قادرة فقط على التعامل مع هندسيات مسطّحة ومحدودة.
لكن مع دخول الذكاء الاصطناعي، اتسع نطاق الابتكار. الباحث «كان ياو» يوضح: «التعلم الآلي لا يصلح لكل شيء، لكنه مثالي عندما يتعلق الأمر بتصميم مواد حرارية بمواصفات طيفية دقيقة».
ربما يكون المستقبل أقرب مما نظن. فمع تطوّر هذه التقنية، يمكن أن تتحول نوافذ المنازل إلى «مبردات صامتة»، وتصبح الملابس صيفًا أكثر انتعاشًا، وتقل الحاجة إلى أجهزة التكييف، خاصة في المناطق النامية التي تعاني أزمات كهرباء ودرجات حرارة قياسية.
لكن التحدي الآن يكمن في التصنيع على نطاق واسع، وتخفيض التكلفة، وجعل هذه المواد متاحة للاستخدامات اليومية. ومع تسارع الابتكارات القائمة على الذكاء الاصطناعي، فإن ما كان يُعتبر قبل سنوات من ضروب الخيال بات يُطرح اليوم كخيارٍ واقعي.