في يوم قائظ من يونيو 2025، لم يتوقع سكان مدينة أحمد آباد الهندية أن يستيقظوا على مشهد نيرانٍ تبتلع طائرة من طراز «بوينج 787 دريملاينر» سقطت فوق أحد أحياء المدينة المكتظة، ليلقى 260 شخصًا مصرعهم، بينهم 19 كانوا على الأرض، وينجو راكب واحد فقط من بين الجميع.
وبينما انشغلت فرق الإنقاذ بإطفاء الحرائق وتجميع الرفات، بدأت رحلة أكثر تعقيدًا، وأكثر حسمًا في نظر العائلات المكلومة: تحديد الهوية، يأتي هذا الحادث ليجدد السؤال: كيف يمكن للعلم أن يعيد لكل جسد اسمه؟ في ظل اشتعال الوقود وتفحم الأجساد، تصبح وسائل التعرف التقليدية، من ملامح الوجه إلى بصمات الأصابع، غير مجدية. هنا يتدخل الحمض النووي، لا بوصفه أداة تقنية فحسب، بل كخط دفاع أخير ضد النسيان.
وفقًا للمعايير الجنائية، يمكن لهذا التحليل أن يقدّم تطابقًا شبه مؤكد بين أنسجة الجثة وعيّنات مأخوذة من أقاربها.
الأمر لا يتعلق بجمع أي نسيج بشري فحسب، بل بتمييز ما يُمكن تحليله من بين العظام المتناثرة والأسنان المحترقة.
في حالة الطائرات، تلجأ الفرق الطبية إلى العيّنات المرجعية ما قبل الوفاة مثل فرش الأسنان، أو عينات الدم المحفوظة، وحتى الحلاقة الشخصية، بالإضافة إلى عينات ما بعد الوفاة المأخوذة من مسرح الكارثة، حيث يُعاد بناء ملف جيني كامل لكل ضحية، ثم تُجري المختبرات مقارنة دقيقة مع العيّنات المرجعية.
العملية تبدأ بجمع العيّنات بعناية فائقة لتجنّب التلوث، ثم يُستخلص الحمض النووي باستخدام إنزيمات مخصّصة، بعد ذلك تُحدّد كميته، ويُكثّف للحصول على مادة قابلة للتحليل، ثم تُفصل أجزاء الحمض النووي وتُقارَن بنتائج الأقارب أو مقتنيات الضحية.
لكن التحديات جسيمة. تقول الباحثة البريطانية كارولاين بينيت إنّ «التدهور البيئي، والرطوبة، والحرارة، وحتى التلوث من الجثث الأخرى، يمكن أن يؤثر في جودة العيّنات». ولهذا السبب، لا تُعد المختبرات العادية كافية، حيث تدعو الحاجة إلى مختبرات من طراز دولي مثل تلك التي تديرها اللجنة الدولية لشؤون المفقودين في لاهاي، التي تُعالج عينات شديدة التحلّل وتُقارنها بعشرات الآلاف من البيانات الجينية.
تُعد هذه المختبرات -المعتمدة دوليًا بمعيار ISO 17025 – من أكثر المؤسسات تقدمًا في تحليل الحمض النووي لضحايا الكوارث، خاصة في الحالات التي تفشل فيها الطرق التقليدية. حتى أكتوبر 2023، عالجت أكثر من 77 ألف عيّنة من الرفات البشرية، وسجلت 43 ألف حالة تطابق.
تستخدم هذه المختبرات تقنيتي الـSTRs (التكرارات القصيرة) والـSNPs (تعدد الأشكال النيوكليوتيدية)، وهي تقنيات قادرة على استخراج معلومات جينية من عينات شديدة التلف.
وتُعد هذه القدرة محورية في الكوارث الكبرى مثل تسونامي 2004 أو كارثة طائرة MH17 الماليزية، حيث لعبت اللجنة دورًا حاسمًا في إعادة الأسماء إلى أصحابها.