على الرغم من التوجه العالمي المتزايد نحو مصادر الطاقة النظيفة، لا يزال استهلاك الفحم يمثل حجر زاوية في اقتصادات العديد من الدول الكبرى، حيث يستمر استهلاك العالم من الفحم في تسجيل أرقام مرتفعة، مدفوعًا بشكل أساسي بالنمو الصناعي الهائل في قارة آسيا. ويكشف تحليل خريطة توزيع الفحم في العالم عن مفارقات كبيرة بين الدول التي تملك أكبر الاحتياطيات، وتلك التي تتصدر قائمة الإنتاج، والدول التي تستهلك النصيب الأكبر من هذا الوقود الأحفوري.
إن فهم ديناميكيات استهلاك الفحم لا يقتصر فقط على الأرقام الاقتصادية، بل يمتد ليشمل التكلفة البيئية والصحية الباهظة التي يدفعها الكوكب والمجتمعات. فبينما يوفر الفحم طاقة رخيصة، فإنه يترك خلفه إرثًا من التلوث، مما يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل هذا المورد الذي لا يزال يمثل 26% من إجمالي استهلاك الطاقة العالمي.
تبرز الصين كقوة مهيمنة بلا منازع. إذ استهلكت وحدها 91.94 إكساجول في عام 2023، وهو ما يمثل 56% من إجمالي استهلاك العالم من الفحم. ويعتمد اقتصادها بشكل كبير على هذا الوقود، حيث شكل 55.3% من إجمالي استهلاك الطاقة لديها في نفس العام.
وتأتي الهند في المرتبة الثانية باستهلاك بلغ 21.98 إكساجول، وفي تطور لافت، تجاوز استهلاك الفحم في الهند لأول مرة استهلاك أوروبا وأمريكا الشمالية مجتمعتين في عام 2023. وتكشف البيانات عن تباين إقليمي حاد؛ ففي حين أن استهلاك الفحم في أمريكا الشمالية وأوروبا آخذ في الانخفاض منذ التسعينيات، فإن الزيادة الهائلة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ قد عوضت هذا الانخفاض وزادت عليه، خاصة منذ عام 2000. وقد وصل استهلاك العالم من الفحم إلى مستوى قياسي جديد في 2023، متجاوزًا 164 إكساجول.
تكشف بيانات الاحتياطيات المؤكدة عن تركّز كبير لثروة الفحم العالمية في عدد محدود من الدول. إذ تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًا بفارق كبير، حيث تمتلك احتياطيات مؤكدة تبلغ 248.941 مليار متر مكعب، وهو ما يمثل 30.5% من إجمالي احتياطي الفحم في العالم، بحسب التقديرات التي نشرها موقع Global Fire Power لعام 2025.
في المركز الثاني تأتي روسيا باحتياطيات تقدر بـ 162.166 مليار متر مكعب (19.9% من الإجمالي العالمي)، ثم أستراليا في المرتبة الثالثة بـ 150.227 مليار متر مكعب (18.4%) ،وتأتي الصين، على الرغم من كونها أكبر منتج ومستهلك، في المرتبة الرابعة من حيث الاحتياطيات، حيث تبلغ 143.197 مليار متر مكعب (17.6%). وتختتم الهند القائمة الخمس الأولى باحتياطيات تبلغ 111.052 مليار متر مكعب (13.6%). هذه الأرقام توضح أن الدول التي تملك الحصة الأكبر من المورد ليست بالضرورة هي الأكثر استخدامًا له في الوقت الحالي.
على صعيد الإنتاج، تتغير الخريطة بشكل جذري، حيث تهيمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ على ما يقرب من 80% من الإنتاج العالمي، والذي وصل إلى مستوى قياسي بلغ أكثر من 8.7 مليار طن في عام 2023. وتتصدر الصين قائمة أهم الدول المنتجة للفحم بفارق هائل، حيث تنتج وحدها 4.827 مليار متر مكعب، وهو ما يمثل 64.1% من الإنتاج العالمي، وفق إحصائيات موقع Global Fire Power لعام 2025.
وتأتي الهند في المرتبة الثانية بإنتاج يبلغ 985.671 مليون متر مكعب (13.1%)، ثم إندونيسيا في المرتبة الثالثة بإنتاج 659.357 مليون متر مكعب (8.8%). وتضم القائمة أيضًا الولايات المتحدة بإنتاج 548.849 مليون متر مكعب، وروسيا بـ 508.190 مليون متر مكعب، وأستراليا بـ 465.865 مليون متر مكعب. وهذا يوضح أن الإنتاج العالمي يتركز بشكل كبير في الدول التي لديها أعلى معدلات استهلاك للفحم.
تكشف بيانات هيئة الزكاة والضريبة والجمارك لعام 2024، عن حجم واردات المملكة من الفحم والتي تجاوزت 187 ألف طن، بقيمة تقديرية تتخطى 2.1 مليار ريال. وتفصيلاً، بلغت واردات الفحم وحده أكثر من 186.4 مليون كيلوجرام (أي 186,400 طن)، وتصدرت قائمة الدول الموردة للمملكة كل من إندونيسيا، ومصر، ونيجيريا، والصين، وفيتنام. أما واردات الحطب، فقد تجاوزت 434.37 ألف كيلوجرام، وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية على رأس قائمة الدول الموردة، تليها ألمانيا، والبرتغال، والصين، والإمارات. هذه الأرقام تؤكد على استمرار الطلب لتلبية احتياجات قطاعات مختلفة في المملكة.
يترك استهلاك الفحم بهذا الحجم الهائل آثارًا باهظة على صحة الإنسان والبيئة. فعند حرق الفحم، يتم إطلاق عدد كبير من الملوثات السامة في الهواء، مثل الزئبق والرصاص وأكاسيد الكبريت والنيتروجين، والتي ترتبط بشكل مباشر بأمراض خطيرة تشمل الربو، وأمراض القلب، والسرطان، وتلف الدماغ، والوفاة المبكرة.
بالإضافة إلى ذلك، ينتج عن محطات الطاقة التي تعمل بالفحم أكثر من 100 مليون طن من رماد الفحم سنويًا في الولايات المتحدة وحدها، وينتهي المطاف بأكثر من نصف هذه النفايات في مواقع يمكن أن تلوث إمدادات مياه الشرب. كما يؤدي تعدين الفحم إلى تدمير النظم البيئية من خلال تصريف الصخور الحمضية في المجاري المائية.
لكن يبقى تغير المناخ هو الخطر الأكبر والأطول أمدًا. فالفحم يتكون بشكل أساسي من الكربون، الذي يتحول عند احتراقه إلى ثاني أكسيد الكربون، وهو غاز رئيسي حابس للحرارة. إن الزيادة المستمرة في استهلاك الفحم في العالم تساهم بشكل مباشر في ظاهرة الاحتباس الحراري، وما يترتب عليها من جفاف وفيضانات وارتفاع في مستوى سطح البحر. وفي الختام، يظل استهلاك الفحم قضية شائكة، حيث يمثل محركًا اقتصاديًا لدول كبرى، وعبئًا بيئيًا على الكوكب بأسره.