هل يوجد ما يسمى الذكاء بالوراثة أو هناك جينات المسؤولة عن إمداد الشخص بالذكاء؟ ما يجعل الذكاء في طبيعته وراثيًا وفقًا للجينات لا مكتسبًا وفقًا للبيئة والتجارب والخبرات؟ هذا السؤال شكّل محورًا للنقاش المستمر عند العلماء لفترات طويلة. الآن، تقدم دراسة حديثة نُشرت في دورية “PNAS” رؤى مبتكرة تسلط الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه الجينات في تحديد مسار قدراتنا المعرفية.
ركزت الدراسة الحديثة، التي قادها باحثون متخصصون من الأكاديمية الصينية للعلوم، على مفهوم “حالة العتبة الحرجة للدماغ”. هذه الحالة تمثل التوازن الدقيق بين نشاط الخلايا العصبية المثيرة للخلايا العصبية المثبطة. كما أنها تعتبر ضرورية لأداء الدماغ بكفاءة عالية في معالجة المعلومات. من خلال استخدام بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي في حالة الراحة (rs-fMRI) من مشروع Human Connectome Project، قام الباحثون بتحليل معمق لبيانات مستخلصة من توائم متطابقة وغير متطابقة، بالإضافة إلى أفراد آخرين لا تربطهم أي صلة قرابة. هذه المنهجية مكنت الفريق البحثي من تقييم التأثيرات الوراثية على حالة العتبة الحرجة للدماغ بدقة متناهية.
لقد كشفت نتائج هذه الدراسة الهامة أن العوامل الوراثية تلعب دورًا لا يستهان به في تشكيل حالة العتبة الحرجة للدماغ. الأكثر من ذلك، لوحظ تأثير وراثي أكثر وضوحًا في مناطق الدماغ المسؤولة عن الإحساس بشكل أساسي. هذا يشير بوضوح إلى أن قدرة الدماغ على الحفاظ على هذه الديناميكية المعقدة، التي سبق ربطها بكفاءة معالجة المعلومات والقدرة الملحوظة على التكيف المعرفي، هي في جوهرها صفة موروثة تنتقل عبر الأجيال.
علاوة على ذلك، لم يقتصر عمل الباحثين على هذا فحسب، بل قاموا بدمج البيانات المستخلصة من التصوير بالرنين المغناطيسي مع خرائط التعبير الجيني التفصيلية المتوفرة في Allen Human Brain Atlas. هذا التحليل المتعمق كشف عن وجود أنماط محددة في التعبير الجيني ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحالة العتبة الحرجة في مناطق دماغية معينة. تجدر الإشارة إلى أن هذه الأنماط الجينية تشارك في عمليات بيولوجية ذات صلة وثيقة بالاضطرابات العصبية المختلفة.
الأهم من كل ذلك، توصلت الدراسة إلى استنتاج بالغ الأهمية وهو أن حالة العتبة الحرجة للدماغ والأداء المعرفي يشتركان في أساس وراثي مشترك. هذا الاكتشاف الهام يقدم لنا فهمًا أعمق للآلية التي تدعم بها السمات الموروثة وظائفنا المعرفية العليا، والتي تعتبر بدورها جزءًا لا يتجزأ من مفهوم الذكاء الشامل.
أكد البروفيسور نينغ ليو على الأهمية الكبيرة لهذه النتائج، قائلاً: “يعد الحفاظ على حالة العتبة الحرجة أمرًا ضروريًا لأداء الدماغ لوظائفه على أكمل وجه. إن الكشف عن الأساس الجيني لهذه الحالة يفتح آفاقًا واعدة لأبحاث مستقبلية تهدف إلى فهم الإدراك بشكل أفضل.” بالتالي، يضع هذا العمل العلمي الجديد أساسًا متينًا لمزيد من الأبحاث التي تتناول الآليات الجزيئية الدقيقة التي تربط بين ديناميكيات الدماغ الحرجة وتداعياتها العميقة على صحة الدماغ بشكل عام.
في الختام، على الرغم من أن الدراسة لا تقدم إجابة نهائية حول ما إذا كان الذكاء موروثًا بالكامل، إلا أنها تقدم دليلاً قويًا يؤكد أن الجينات تلعب دورًا محوريًا في تحديد القدرات المعرفية التي تشكل جزءًا أساسيًا من الذكاء البشري. هذا الاكتشاف يفتح مسارات جديدة وواعدة للبحث العلمي في العلاقة المعقدة بين الوراثة ووظائف الدماغ المعرفية، مما قد يؤدي إلى فهم أعمق وعلاج أكثر فعالية للاضطرابات العصبية في المستقبل القريب.