في تطور قضائي لافت، ألغت محكمة الاستئناف في لاهاي، اليوم الثلاثاء، حكمًا صدر في 2021 كان يلزم شركة شل النفطية العملاقة بخفض انبعاثات الكربون بنسبة 45% بحلول عام 2030 مقارنة بمستويات 2019.
يمثل الحكم انتكاسة كبيرة للمنظمات البيئية، التي رأت في قرار عام 2021 خطوة رائدة لإجبار الشركات الكبرى على التحرك بجدية لمواجهة التغير المناخي، ورغم أن المحكمة أقرت بوجود مسؤولية على شل لتقليص انبعاثات غازات الدفيئة، فإنها عدت أن فرض تقليص مطلق يشمل الانبعاثات الناتجة عن استخدام المستهلكين لمنتجات الشركة قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة، حيث يمكن أن يزيد من اعتماد الدول على مصادر طاقة أكثر تلويثًا، مثل الفحم والنفط الأحفوري، في ظل تعقيدات اقتصادية جديدة.
وتعكس هذه القضية واقعًا عالميًا تكتنفه التحديات السياسية والاقتصادية المتزايدة. فمنذ عام 2021، واجه العالم تغيرات جذرية أثرت على استراتيجيات الطاقة، أبرزها الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي تسبب في ارتفاع حاد في أسعار النفط والغاز، وأجبر الدول على إعادة النظر في خططها حول الطاقة، بما في ذلك التراجع عن الحد من استخدام الوقود الأحفوري والبحث عن حلول سريعة لتأمين موارد الطاقة التقليدية.
هذا التوجه يجعل من الصعب الحفاظ على الالتزامات البيئية السابقة، خاصة في ظل ازدياد النقاشات الحامية حول مستقبل الوقود الأحفوري مع اقتراب انعقاد قمة الأمم المتحدة للمناخ «كوب 29» في باكو، حيث تشهد الساحة انقسامات حول إدراج الوقود الأحفوري في خطط الحد من التغير المناخي.
عودة ترامب
وفي خضم هذه التحولات، يلوح في الأفق احتمال عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة، وهو احتمال يثير القلق بين الخبراء البيئيين والمنظمات الدولية. فلطالما كان ترامب من أشد المنتقدين لمفهوم التغير المناخي، وسبق له أن وصفه بأنه «خدعة كبرى».
خلال ولايته الأولى، ترامب انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، التي تعد حجر الزاوية في التعاون العالمي لمكافحة الاحتباس الحراري، كما انتهج سياسات تهدف لتعزيز إنتاج النفط والغاز والفحم، ورفع القيود البيئية عن الشركات الكبرى تحت شعار «أمريكا أولًا»، معتبرًا أن ذلك يعزز استقلال الاقتصاد الأمريكي، ومن المرجح أن يستأنف هذه السياسات، وربما يتخذ خطوات أكثر تشددًا مثل الخروج من الاتفاقات الدولية الخاصة بالمناخ.
وتؤكد الخبيرة أليس هيل، من مجلس العلاقات الخارجية، أن عودة ترامب قد تشكل عقبة كبرى أمام الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي، إذ قد تتخلى الولايات المتحدة عن التزاماتها بخفض الانبعاثات، ما سيحفز دولًا أخرى لتخفيف التزاماتها، في وقت يشهد العالم فيه تغيرات مناخية قاسية تتطلب تعاونًا دوليًا غير مسبوق.
بين الأمل والواقع
من ناحية أخرى، تجد الولايات المتحدة نفسها في منافسة اقتصادية قوية مع دول كالصين التي تواصل الاستثمار بكثافة في مصادر الطاقة النظيفة، رغم اعتمادها المتزايد على الفحم، حيث بلغت الاستثمارات العالمية في الطاقة المتجددة حوالي تريليوني دولار هذا العام، لكن عودة ترامب قد تضعف هذه الطموحات على المستوى العالمي، مما يتيح فرصة للصين للهيمنة على قطاع الطاقة النظيفة، ربما ليس بدافع الحفاظ على المناخ بقدر ما هو لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي.
ومع ذلك، فإن عودة ترامب لا تعني بالضرورة انهيار الجهود الأمريكية في مجال الطاقة المتجددة، حيث أظهرت تجربته السابقة أن انبعاثات الكربون الأمريكية لم تشهد ارتفاعًا كبيرًا، بفضل التوجهات المحلية المستقلة التي تبنتها بعض الولايات والمدن الأمريكية، والتي واصلت الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة ووضعت سياسات لخفض الانبعاثات.
وعلى الرغم من أن هذه السياسات ليست كافية لإحداث تحول جذري على المستوى الوطني، فإنها تعكس زخمًا مستمرًا نحو اعتماد الطاقة النظيفة، مدفوعًا بتغيرات السوق والتوجهات الاقتصادية الدولية التي لا يمكن تجاهلها.
كذلك، فإن الاستثمار في الطاقة النظيفة لم يعد قضية بيئية فقط، بل أصبح شرطًا ضروريًا للحفاظ على القدرة التنافسية الاقتصادية على المستوى العالمي. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تواجه منافسة شديدة من الاتحاد الأوروبي الذي يضع قضايا المناخ في قلب سياساته الاقتصادية والصناعية، كما يدفع باتجاه تعزيز دوره كقائد عالمي في التكنولوجيا النظيفة والاستثمارات الخضراء، في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في هذا القطاع.
ويرى المراقبون أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يستغل أي تراجع أمريكي محتمل في التزامات المناخ لتعزيز موقفه كزعيم للانتقال الأخضر على الساحة الدولية، مع التركيز على توسيع الاستثمارات في مجالات التكنولوجيا النظيفة والطاقة المتجددة، والحفاظ على موقعه التنافسي في مواجهة الولايات المتحدة والصين.
في نهاية المطاف، تبقى الطموحات المناخية العالمية رهنًا بتوازنات سياسية واقتصادية معقدة، كما يتضح من قضية شل، واحتمالات عودة ترامب. وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن التحولات الاقتصادية العالمية تفرض إيقاعها الخاص، حيث تتزايد استثمارات الشركات في الطاقة المتجددة وتسعى الأسواق بشكل متزايد لتبني نماذج مستدامة. وبالنظر إلى الضغوط المتزايدة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، فإن العالم، وإن كان ببطء وتفاوت، يستمر في السعي نحو مستقبل أكثر استدامة وإن كان مساره محفوفًا بالعقبات.