مع حلول اليوم العالمي للبريد الذي يُحتفى به في التاسع من أكتوبر كل عام، تطفو على السطح قصص غريبة من أرشيف المراسلات القديمة، تكشف عن البدايات الفوضوية والطريفة لخدمات البريد حول العالم. ومن بين تلك القصص، تبرز حكاية تكاد تُصنف ضمن “الأحداث المستحيلة”، لكنها حدثت فعلًا، حين قرر زوجان من ولاية أوهايو في الولايات المتحدة إرسال طفلهما الرضيع عبر البريد إلى منزل جدته!.
في مطلع عام 1913، أطلقت هيئة البريد الأمريكية خدمة جديدة تسمح بإرسال الطرود، وكانت تجربة حديثة العهد لم تتضح بعد تفاصيلها القانونية. لم تكن هناك لوائح دقيقة تحدد ما يجوز وما لا يجوز شحنه، وهو ما أفسح المجال أمام الناس لتجربة حدود النظام بطرود عجيبة وغير مألوفة. وفي خضم هذا الغموض، قرر الزوجان “بيج” اختبار الخدمة بشكل غير متوقع إذ وضعا طفلهما في “طرد بريدي”، ودفعا خمسة عشر سنتًا ثمن الطوابع، وأمّنا عليه بقيمة خمسين دولارًا، ثم سلّماه إلى ساعي البريد الذي أوصله بنفسه إلى منزل الجدة القريب، على بُعد ميل واحد فقط.
كانت مكاتب البريد في ذلك الوقت قد بدأت حديثًا باستقبال الطرود التي يزيد وزنها عن أربعة أرطال، لكن لم تكن هناك تعليمات واضحة بخصوص طبيعة المسموح بشحنه. بدأ المواطنون يرسلون عبر البريد كل ما يخطر على البال، من البيض والطوب إلى الثعابين والمواد الغذائية، وبما أنه لم يرد في اللوائح ما يمنع إرسال البشر، لم يكن إرسال الأطفال فعلًا مخالفًا بشكل صريح.
وتوضح نانسي بوب، أمينة قسم التاريخ في المتحف الوطني للبريد الأمريكي، أن تلك السنوات الأولى كانت فترة فوضى تنظيمية حقيقية: “في بدايات خدمة الطرود، كانت الأمور تدار باجتهادات محلية، فكل مدير مكتب بريد يفسر القواعد على طريقته، مما جعل بعض الوقائع تمرّ دون مساءلة”. وتشير بوب إلى أنها وثّقت نحو سبع حالات لأطفال تم إرسالهم بالبريد بين عامي 1913 و1915، بدءًا من قصة الرضيع في أوهايو. ورغم أن هذه الوقائع نادرة، فإنها لم تكن بلا منطق: فإرسال الطفل بالبريد عبر السكك الحديدية كان أقل تكلفة بكثير من شراء تذكرة قطار له.
ومن اللافت أن أولئك الآباء لم يسلموا أطفالهم إلى غرباء. ففي القرى والمناطق الريفية، كان سعاة البريد معروفين للأهالي، وغالبًا ما يُعتبرون جزءًا من المجتمع المحلي، فيُسلّم الطفل إلى أقاربه مباشرة دون خوف. أما الصور المنتشرة على الإنترنت لسعاة البريد وهم يحملون أطفالًا داخل أكياس البريد، فهي مجرد لقطات تمثيلية ساخرة صُورت للدعابة، وليست مشاهد حقيقية.
وفي فبراير 1914، برزت قصة أخرى لا تقل طرافة، بطلتها الطفلة ماي بيرستورف من ولاية أيداهو. فقد أرسلها والداها إلى منزل جديها الذي يبعد نحو 73 ميلًا، وكان ساعي البريد الذي نقلها أحد أقارب العائلة. وضعوا على معطفها طوابع بريدية بقيمة 53 سنتًا، وسافرت على متن قطار البريد حتى وصلت بسلام. لكن هذه الحادثة، إلى جانب استفسارات مماثلة وصلت إلى إدارة البريد، دفعت المدير العام حينها ألبرت بورلسون إلى إصدار قرار رسمي يحظر قبول أي “طرود بشرية”، مؤكدًا أن البريد مخصص لنقل الأشياء لا الأشخاص.
رغم صدور القرار، لم تختفِ الظاهرة على الفور. ففي العام التالي، أقدمت سيدة من فلوريدا على إرسال ابنتها ذات الست سنوات إلى والدها في فرجينيا، في رحلة بريدية امتدت لمسافة 720 ميلًا، وهي الأطول في تلك السلسلة العجيبة من القصص. دفعت الأم خمسة عشر سنتًا فقط للطوابع، وكانت الطفلة تُنقل برعاية موظفي البريد من محطة إلى أخرى حتى وصلت إلى والدها.
وفي أغسطس 1915، تصدرت الصحف قصة جديدة عن الطفلة مود سميث، البالغة من العمر ثلاث سنوات، التي أرسلها جدّاها عبر البريد من قريتهما في ولاية كنتاكي إلى والدتها المريضة في بلدة تبعد 40 ميلًا. وبعد انتشار الخبر، أمر المشرف الإقليمي للبريد في سينسيناتي بفتح تحقيق عاجل لمعرفة سبب قبول الطفلة ضمن الطرود رغم منع ذلك رسميًا. لم يُعرف ما إذا كان مدير المكتب قد فقد منصبه، لكن المؤكد أنه اضطر لتقديم تفسير مطوّل لسماحه بالمخالفة.
ويُعتقد أن رحلة مود سميث كانت آخر واقعة رسمية من هذا النوع في الولايات المتحدة، إلا أن الفكرة لم تختفِ تمامًا. ففي يونيو 1920، رفض المساعد الأول لمدير عام البريد جون سي. كونز طلبين جديدين لإرسال أطفال، مؤكدًا أن البشر لا يُصنَّفون ضمن فئة “الحيوانات الحية غير الضارة” المسموح بنقلها عبر البريد. وهكذا أُسدل الستار على واحدة من أكثر القصص غرابة في تاريخ الخدمات البريدية.
اقرأ أيضًا:
طبيب يزرع سنًّا ليعيد البصر لكفيف!
الموسيقيون لا يشعرون بالألم!
تحولت إلى سبائك.. فك لغز اختفاء إسورة فرعونية نادرة!