بعد مرور خمسة وأربعين عامًا على ظهورها الأول في صالات الألعاب المظلمة والمزدحمة، لا تزال لعبة باك مان تمثل ظاهرة ثقافية فريدة تتجاوز كونها مجرد لعبة فيديو. هذه الدائرة الصفراء الجشعة لم تكتفِ بتحقيق نجاح مالي أسطوري، حيث تقدر إيرادات السلسلة بأكثر من 14 مليار دولار، بل حفرت مكانتها في الذاكرة الجماعية العالمية كرمز لجيل بأكمله.
تعود أصول لعبة باك مان إلى لحظة إلهام بسيطة وعفوية. ففي أواخر السبعينيات، كان مصمم الألعاب الياباني تورو إيواتاني يتناول شريحة بيتزا، وعندما أزال القطعة الأولى، نظر إلى الشكل المتبقي وأدرك أنه يرى وجهًا بفم مفتوح. من هذه الصورة، وُلدت الشخصية المثالية التي تجسد جوهر اللعبة: “الأكل”. وقد تم اختيار اسم “باك مان” في اليابان كإشارة إلى العبارة العامية “باكو باكو تابيرو”، التي تصف صوت التهام الطعام بشراهة.
لكن عبقرية إيواتاني لم تقتصر على ذلك، بل امتدت إلى رؤيته الشاملة. فقد كان يهدف إلى تصميم لعبة تستقطب جمهورًا أوسع، وتحديدًا النساء، لكسر هيمنة ألعاب إطلاق النار الموجهة للذكور التي سادت تلك الحقبة. ولتحقيق ذلك، صمم الأشباح (بلينكي، بينكي، إنكي، وكلايد) لتكون ذات طابع “لطيف”، مستلهمًا ذلك من مفهوم “وابي سابي” الياباني الذي يجد الجمال في البساطة، وهو ما ساهم في جعل لعبة باك مان ظاهرة عالمية.
يكمن سر نجاح لعبة باك مان في تحقيقها للمعادلة الصعبة، فهي سهلة التعلم ولكن صعبة الإتقان. الهدف بسيط: التهم كل النقاط في المتاهة مع تجنب الأشباح. لكن إضافة “حبات الطاقة”، التي تحول الصياد إلى فريسة بشكل مؤقت، خلقت عمقًا استراتيجيًا فريدًا ومنحت اللاعب شعورًا بالقوة والرضا لا مثيل له. وقد سمح هذا التصميم للاعبين العاديين بالاستمتاع بها، وفي الوقت نفسه فتح الباب أمام اللاعبين المحترفين لحفظ مئات الأنماط المعقدة للمتاهات والوصول إلى مستويات احترافية.
والأهم من ذلك، كانت لعبة باك مان من أوائل الألعاب التي خلقت رابطًا عاطفيًا بين اللاعب والشخصية على الشاشة، وهو ما يُعرف في علم النفس بـ “التجسيد”. فعلى عكس التحكم في مركبة فضائية، كان اللاعبون يتحكمون في كائن حي يعبر عن ألمه بصوت مميز عند الإمساك به، مما طمس الحدود بين عالم اللعبة والعالم الحقيقي. وامتد تأثير لعبة باك مان إلى ما هو أبعد من الترفيه، حيث أصبحت أداة مفيدة بشكل مدهش في البحث العلمي. فقد استخدم باحثون في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عام 2007 اللعبة، مع تعريض اللاعبين لصدمات كهربائية خفيفة عند اقتراب الأشباح، لدراسة نشاط الدماغ المتعلق بالخوف والتهديد باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي.
كما تم استخدامها في دراسة الإدراك لدى الحيوانات. فقد كشفت دراسة من جامعة كورنيل عن وجود صلة بين حركة عيون القرود وقراراتها داخل اللعبة، بينما استخدمت المكتبة الوطنية للطب لعبة باك مان لإثبات أن قرود المكاك قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية هرمية، وهي قدرة كان يُعتقد سابقًا أنها حكر على البشر.
تواجه “بانداي نامكو”، الشركة المالكة للعبة، تحديًا مستمرًا في الحفاظ على حداثة شخصية غير ناطقة وبسيطة ميكانيكيًا، مقارنة بشخصيات مثل “ماريو” و”سونيك”. وتعتمد استراتيجيتهم على مسارين: الأول هو إطلاق ألعاب جديدة مثل “شادو لابيرنث” التي تقدم تطورًا في أسلوب اللعب مع الحفاظ على روح الأصل.
والمسار الثاني هو توسيع حضور العلامة التجارية خارج نطاق الألعاب، من خلال شراكات مع علامات تجارية أخرى مثل “كريسبي كريم”، وإنشاء تجارب ترفيهية غامرة تشبه غرف الهروب في مدن مثل دبي ومانشستر. ورغم أن الشركة لم تؤكد خططًا لفيلم سينمائي، إلا أنها تهدف إلى ترسيخ مكانة لعبة باك مان كرمز ثقافي عالمي. وفي النهاية، يظل الحنين إلى عصر صالات الألعاب “الأركيد” أحد أقوى أسباب استمرار شعبية لعبة باك مان، فهي تذكير دائم بطفولة جيل كامل، وبرسالتها البسيطة والعميقة “لمواجهة أشباحك، عليك أحيانًا أن تقلب الطاولة وتصبح أنت الصياد”.
اقرأ أيضًا:
لهذا السبب.. Activision توقف لعبة “Call of Duty: WWII”
هل ستصنع نتفليكس جزء رابع من «لعبة الحبار»؟
العالم المفتوح في EA Sports FC 26: هل ستغيّر اللعبة المفضلة وجهها؟