وجه الاغتيال يتغير.. من الخناجر الصامتة للرقمنة القاتلة

ديسمبر ٢٥, ٢٠٢٥

شارك المقال

وجه الاغتيال يتغير.. من الخناجر الصامتة للرقمنة القاتلة

يعتبر الاغتيال في جوهره السياسي واللغوي فعلًا متعمدًا لإنهاء حياة شخصية بارزة بشكل مفاجئ أو سري، وغالبًا ما يكون الدافع وراء ذلك أيديولوجيًا أو سياسيًا بحتًا.

وتعود الجذور اللغوية لهذه الكلمة في اللغات الغربية (Assassination) إلى طائفة "الحشاشين" التي أرعبت الممالك في العصور الوسطى، حيث اشتقت من لفظ "حشاش" للإشارة إلى أتباع حسن الصباح الذين اتخذوا من القلاع الحصينة في بلاد فارس والشام منطلقًا لعملياتهم.

وبينما كان المفهوم قديمًا يقتصر على التصفية الجسدية المباشرة، توسع في العصر الحديث ليشمل "الاغتيال المعنوي" أو تشويه السمعة، مما يعكس تحولًا جذريًا في فلسفة الهجوم على الخصوم من طعن الأجساد إلى هدم الكيانات الاعتبارية.

الاغتيال في العصور القديمة

بدأت أولى فصول هذا التاريخ الدموي بالاعتماد الكلي على المهارة الفردية والقرب الجسدي من الضحية، إذ كان الخنجر هو الوسيلة الأكثر شيوعًا وضمانًا للفتك.

وشهدت ساحات روما القديمة واحدة من أشهر هذه العمليات عندما سقط يوليوس قيصر صريعًا بـ 23 طعنة وجهها له أعضاء في مجلس الشيوخ، في مشهد يجسد ذروة الاغتيال السياسي الذي يهدف لتعطيل مسار سلطوي معين.

ولم تكن الدولة الإسلامية بمنأى عن هذا الأسلوب، حيث اغتيل الخلفاء الراشدون عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب في حوادث طعن مباشرة استغلت لحظات الصلاة أو الحصار، مما يبرهن على أن انعدام المسافة بين القاتل والمقتول كان شرطًا أساسيًا لنجاح العملية قبل قرون طويلة.

واستمر هذا النهج مع ظهور "طائفة الحشاشين" في قلعة آلموت، حيث أدخل حسن الصباح بعدًا تنظيميًا جديدًا عبر تدريب "الفدائيين".

وكان هؤلاء المقاتلون يندسون في بلاطات الملوك والوزراء لسنوات، منتظرين اللحظة الحاسمة لتنفيذ الاغتيال أمام العامة لبث الرعب، وهو ما حدث بالفعل مع الوزير السلجوقي نظام الملك.

وتميزت هذه الفترة بالاعتماد على "السموم" أيضًا، حيث استخدمت "حلقات السم" والإبر المطلية بالمواد القاتلة في كواليس القصور الأوروبية، ولا سيما لدى عائلة "بورجيا" الإيطالية، لتصفية الخصوم دون ترك أثر مادي يشي بالجريمة.

الاغتيال يتجاوز المسافات القريبة بثورة البارود

أحدث اكتشاف البارود وتطوره خلال عصر النهضة انقلابًا في موازين القوى، حيث انتقلت أدوات القتل من النصل البارد إلى المقذوفات النارية.

وسمح ظهور المسدسات البديلة مثل "الفلينتلوك" للمهاجمين بترك مسافة أمان نسبية، وهو ما تجلى في عام 1584 عندما تعرض وليام الصامت، زعيم الثورة الهولندية، لعملية الاغتيال باستخدام طبنجة، لتسجل كواحدة من أوائل الحوادث الناجحة باستخدام السلاح الناري.

ومع ذلك، بقيت الدقة المحدودة لهذه الأسلحة تجبر القتلة على الاقتراب من الهدف، كما حدث في اغتيال ملك فرنسا هنري الرابع عام 1610، رغم انتشار الأسلحة النارية في ذلك العصر.

ولم يتوقف التطور عند السلاح الفردي، بل شمل ابتكار المتفجرات لضرب أهداف متعددة في آن واحد، ولعل "مؤامرة البارود" عام 1605 التي قادها غاي فوكس لتفجير البرلمان البريطاني كانت المثال الأبرز على الرغبة في إحداث صدمة سياسية شاملة.

وبالانتقال إلى القرن التاسع عشر، ومع نضج الصناعة العسكرية، أصبح الاغتيال أكثر تنظيمًا، حيث مكنت البنادق ذات السبطانات المحلزنة الرماة من إصابة أهدافهم من مسافات أبعد، مما مهد الطريق لظهور مهنة "القناص" التي ستغير وجه الصراعات السياسية في القرن العشرين.

الاغتيال من خلف المناظير

وصلت تقنيات القنص إلى ذروتها خلال الحروب العالمية وما تلاها، حيث أصبح بإمكان شخص واحد مختبئ في بناية بعيدة أن يغير مصير أمة.

وتصدرت حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي عام 1963 المشهد العالمي، حيث أثبتت أن استخدام بندقية مزودة بمنظار بصري يمكن أن يتجاوز كل إجراءات الحماية التقليدية.

ويتطلب هذا النوع من العمليات دراسة دقيقة لسرعة الرياح، والمسافة، وحركة الهدف، مما نقل فعل الاغتيال من خانة "الاندفاع الانتحاري" إلى خانة "الهندسة العسكرية" الدقيقة.

وبالتوازي مع القنص، شهدت فترة الحرب الباردة ظهور أساليب مبتكرة وشبه خفية، حيث استخدمت الاستخبارات السوفيتية (KGB) مظلة حقن بها سم "الريسين" لتصفية المعارض البلغاري غيورغي ماركوف في لندن.

وشكل هذا المزيج بين التقدم الكيميائي والابتكار الميكانيكي مرحلة انتقالية، حيث لم يعد القاتل بحاجة لإطلاق رصاصة، بل يكفي وخزة إبرة غير محسوسة وسط حشد من الناس لتنفيذ المهمة والانسحاب بهدوء.

الاغتيال في عهد الطائرات المسيرة

انتقلنا في العقدين الأخيرين إلى "عصر القتل عن بعد"، حيث تلاشت الحاجة لوجود بشري في مسرح العمليات.

وأصبحت الطائرات المسيرة (Drones) هي الأداة المفضلة للقوى الكبرى لتنفيذ عمليات الاغتيال ضد قادة التنظيمات أو الشخصيات العسكرية، كما حدث في عملية استهداف الجنرال الإيراني قاسم سليماني عام 2020.

وتعتمد هذه التقنية على مراقبة لحظية عبر الأقمار الصناعية وصواريخ موجهة بدقة متناهية، مما يجعل الهروب من الاستهداف أمرًا شبه مستحيل في ظل التفوق التقني.

علاوة على ذلك، يلوح في الأفق خطر "الاغتيال السيبراني"، وهو المفهوم الأحدث الذي قد يغير قواعد اللعبة تمامًا، فمن خلال اختراق الأجهزة الطبية المرتبطة بالإنترنت، مثل منظمات ضربات القلب أو مضخات الإنسولين، يمكن تصفية الهدف دون إطلاق رصاصة واحدة أو إرسال طائرة، بل عبر شفرات برمجية ترسل من قارة أخرى.

ويعني هذا التحول الرقمي أن مفهوم الاغتيال قد تجرد من طابعه المادي الملموس، ليصبح فعلًا تقنيًا صامتًا يصعب إثباته جنائيًا أو تتبع فاعله، مما يضع العالم أمام تحديات أخلاقية وقانونية غير مسبوقة في تاريخ الصراعات البشرية.

مستقبل الاغتيال خلف الستار البيولوجي

تتجاوز الابتكارات الحالية حدود الطائرات المسيرة لتصل إلى ما يُعرف بـ "الأسلحة العرقية" أو الاستهداف الجيني، وهو مفهوم يعتمد على تصميم فيروسات أو بكتيريا معدلة وخوارزمية لا تهاجم إلا شخصًا بعينه بناءً على حمضه النووي (DNA).

وبدأت مراكز أبحاث عالمية تحذر من أن فعل الاغتيال قد لا يحتاج مستقبلًا إلى رصاصة أو حتى اختراق سيبراني، بل يكفي استخلاص عينة من لعاب الهدف أو شعرة منه لتصميم مادة بيولوجية لا تؤثر في أي إنسان آخر سوى هذا الشخص.

وتمثل هذه القفزة المرعبة ذروة التطور في تقنيات التصفية، حيث يتحول جسد الضحية نفسه إلى سلاح ضده، مما يجعل من المستحيل على أجهزة الطب الشرعي اكتشاف الجريمة أو تصنيفها كعملية اغتيال، بل ستظهر كوفاة طبيعية ناتجة عن فشل مفاجئ في وظائف الأعضاء، لتغلق بذلك الدائرة التي بدأت بخنجر "يوليوس قيصر" وانتهت بموت مبرمج داخل الخلية البشرية.

الأكثر مشاهدة

أحصل على أهم الأخبار مباشرةً في بريدك


logo alelm

© العلم. جميع الحقوق محفوظة

Powered by Trend'Tech