تحت سطح شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك يكمن عالمٌ خفي مذهل، حيث تتشابك الكهوف والأنهار تحت الأرض في شبكة مترابطة تمتد لمئات الأميال. هذه المتاهة المائية ليست مجرد تضاريس طبيعية، بل هي شاهد حي على تفاعل الأرض والمياه عبر آلاف السنين، ومورد حيوي للبشر والحياة البرية على حد سواء.
نظام أوكس بيل ها، أو "ثلاثة مسارات للمياه" بلغة المايا، يمثل مثالًا فريدًا على هذا التراث الطبيعي الضخم، الذي يجمع بين الجغرافيا والجيولوجيا والبيئة والتاريخ، ليكشف عن أعماق مجهولة تحوي أسرارًا طبيعية وآثارًا بشرية نادرة.
أطول نظام مائي مغمور في العالم
نظام أوكس بيل ها هو متاهة ضخمة مغمورة بالمياه تحت الأرض، تمتد لمسافة لا تقل عن 326 ميلاً (524 كيلومترًا)، وفقًا لمركز أبحاث نظام المياه الجوفية في كوينتانا رو (CINDAQ). هذا الامتداد يجعله أطول نظام مغمور بالمياه في العالم، وأطول ثاني نظام كهوف بعد كهوف ماموث في ولاية كنتاكي الأمريكية، التي تمتد على طول 426 ميلاً (686 كيلومترًا).
تقع معظم هذه الكهوف في شبه جزيرة يوكاتان، التي تضم عدة أنظمة ضخمة، ويعود ذلك إلى طبيعة التربة والصخور في المنطقة. فطبقة رقيقة من التربة تغطي الصخور الجيرية القابلة للذوبان، ما يسمح لمياه الأمطار بالمرور بسرعة إلى الكهوف تحت السطح. ويُفسر هذا أيضًا قلة الأنهار والجداول السطحية في المنطقة، حيث تتحول المياه سريعًا إلى المجاري الجوفية.
تتشكل الكهوف في يوكاتان عبر عملية كيميائية تعرف بالكارستية، حيث تقوم مياه الأمطار بإذابة كربونات الكالسيوم الموجودة في الحجر الجيري. وفي نظام أوكس بيل ها، تتضاعف هذه العملية عندما تلتقي المياه العذبة القادمة من الأمطار بالمياه المالحة القادمة من المحيط، ما يزيد من سرعة تشكل الكهوف وتوسعها.
ينتج عن ذلك طبقات منفصلة من المياه العذبة والمالحة، وتلتقي عند نقطة تعرف باسم الخط الهالوكلايني (Halocline). ويختلف عمق هذا الخط في أوكس بيل ها، إذ يكون على عمق 10 أمتار (33 قدمًا) بالقرب من الساحل حيث تكثر المياه المالحة، ويصل إلى 20 مترًا (66 قدمًا) في الداخل. وقدّر مركز أبحاث CINDAQ أن 27% من النظام مكون من مياه مالحة و73% مياه عذبة، وتغذي هذه المياه العذبة مخزون المياه الجوفية العظيم للمايا، والذي يعد المصدر الوحيد لمياه الشرب في المنطقة.
نوافذ طبيعية على الكهوف
تؤدي العملية الكارستية أحيانًا إلى انهيار أسقف الكهوف، ما يخلق بركًا مكشوفة أو حفرًا طبيعية تعرف باسم السينوتات، ويحتوي نظام أوكس بيل ها على ما لا يقل عن 160 سينوتًا، تشكل مصادر مائية مهمة للحيوانات والنظم البيئية. وقد رصد مركز CINDAQ مجموعة من الحيوانات حول هذه السينوتات، مثل الكوغار، والجاكوار، إلى جانب أنواع متعددة من الغزلان والحيوانات الأخرى.
يدعم نظام أوكس بيل ها أيضًا نظامًا بيئيًا فريدًا تحت سطح الأرض. ففي عام 2018، اكتشف العلماء أن النظام يعتمد على الغاز الميثان لتغذية كائناته الدقيقة. يتشكل الميثان أسفل أرض الغابة، ثم يهاجر إلى الكهوف حيث تتغذى عليه الميكروبات والبكتيريا، والتي بدورها تصبح طعامًا للقشريات والكائنات الأخرى، بما في ذلك عدة أنواع من الأسماك مثل سمك الكهف الأبيض عديم العين.
يمتد النظام بالقرب من المدينة التاريخية للمايا، تولوم، حيث كان المايا القدماء يعتقدون أن السينوتات تمثل بوابات إلى Xibalba، عالم الموتى لديهم. وقد أسفرت هذه البرك، إلى جانب تلك الموجودة في نظام Sistema Sac Actun المجاور، عن اكتشافات أثرية هامة.
من أبرز هذه الاكتشافات رفات امرأة تُعرف باسم إيف أوف ناهارون (Eve of Naharon)، يُحتمل أن تعود إلى 13,700 سنة مضت، مما قد يجعلها أقدم رفات بشرية مكتشفة في الأمريكتين. وتشير الأدلة إلى أن المرأة وُضعت عمدًا على أرضية الكهف، التي لم تكن مغمورة بالمياه آنذاك، إلا أن هذا الأمر لم يتم تأكيده بشكل نهائي.
رغم ضخامة وأهمية النظام، يواجه أوكس بيل ها تهديدات جراء عمليات البناء والتطوير الحديثة، بما في ذلك مشروع قطار المايا والمطار الدولي في تولوم. ويشير مركز CINDAQ إلى أن النظام يمتد تحت عدة مناطق حضرية، ما يجعل دراسة ورسم خرائط هذا النظام المائي الهائل تحت الأرض أمرًا بالغ الأهمية لضمان حمايته واستدامته.














