
لا يخلو أي مطبخ في العالم من البصل، فهو مكوّن أساسي يدخل في مئات الوصفات، سواء كان مقليًا أو مطهوًا أو يُستخدم نيئًا لإضفاء نكهة حادة ومميزة على الطعام. ومع ذلك، فإن هذا النبات البسيط يخفي سرًّا كيميائيًا يجعله أحد أكثر المكونات “إثارة للدموع”. فمجرد أن يبدأ السكين بشق طبقاته، تبدأ العين باللسع، وتتدفق الدموع دون إذن. لكن ما السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة التي يختبرها الجميع تقريبًا؟.
داخل خلايا البصل تكمن منظومة كيميائية معقدة تعمل كآلية دفاعية طبيعية ضد المهاجمين. فعندما يكون البصل سليمًا، تبقى مركبات السلفوكسيد محفوظة في أماكن منفصلة عن إنزيم يُعرف باسم أليناز. ولكن ما إن يُكسر جدار الخلايا أثناء التقطيع، حتى يلتقي الإنزيم بالمركبات، وينتج عن هذا اللقاء تفاعل سريع يُنتج حمض السلفينيك.
هذا الحمض غير مستقر إطلاقًا، فيتجه إلى أحد مسارين. المسار الأول يُحوّله إلى مركبات كبريتية عضوية تمنح البصل طعمه المميز ورائحته النفاذة، وهي ذات المركبات التي تعطي الثوم أيضًا نكهته القوية. أما المسار الثاني، فهو ما يجعل البصل “يبكيك”، حيث يتدخل إنزيم آخر يُدعى سينثاز العامل الدمعي، ليحوّل حمض السلفينيك إلى مادة متطايرة تعرف كيميائيًا باسم أكسيد البروبانيثال إس.
ترتفع هذه المادة الغازية الخفيفة بسرعة إلى الهواء وتصل إلى العين، حيث تتفاعل مع الماء الموجود على سطحها لتكوّن حمض الكبريت الخفيف. هذا الحمض يهيّج النهايات العصبية في القرنية، فيستقبل الدماغ الإشارة وكأن العين تتعرض لمادة خطيرة، فيصدر أوامره إلى الغدد الدمعية لإفراز الدموع بغرض غسل المهيّج وطرده.
وتشير الباحثة جوزي سيلفارولي من جامعة ولاية أوهايو، التي قادت دراسة علمية عام 2017 حول آلية “العامل الدمعي”، إلى أن هذه التفاعلات الكيميائية ليست عرضًا جانبيًا غير مقصود، بل هي آلية دفاعية تطورية طوّرها البصل لحماية نفسه من الحشرات والحيوانات والطفيليات التي قد تتغذى عليه. فالمركبات الكبريتية والغازات المهيجة تمنح النبات وسيلة فعالة للردع.
لحسن الحظ، هناك بعض الحيل التي يمكن أن تخفف من حدة هذه التجربة المؤلمة. يمكن مثلًا ارتداء نظارات واقية لمنع الغاز من الوصول إلى العينين، أو استخدام العدسات اللاصقة التي تشكل حاجزًا مؤقتًا يحمي القرنية.
كما أن أسلوب التقطيع له تأثير كبير على كمية الغاز المنبعثة. فقد أظهرت دراسة حديثة نُشرت عام 2025 في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم أن السكاكين غير الحادة تسبب انبعاث “رذاذ” أكثر تركيزًا من العامل الدمعي، لأن تقطيع الخلايا بعنف يزيد من تكسيرها. لذا ينصح الباحثون باستخدام سكين حاد وتقطيع لطيف لتقليل تطاير المركبات. ومن المثير للدهشة أن تبريد البصل قبل التقطيع لا يقلل من الدموع كما يعتقد البعض، بل على العكس، فقد تبيّن أن البصل البارد يطلق كميات أكبر من الغاز المسبب للبكاء مقارنة بالبصل في درجة حرارة الغرفة.
ودفعت معاناة الطهاة مع الدموع بعض المزارعين والعلماء إلى محاولة ابتكار أنواع من البصل لا تسبب الدموع. ومن أبرز هذه الأنواع “بصل سونيون”، الذي تم تطويره عبر التهجين ليكون أكثر حلاوة وأقل تهييجًا للعين. لكن هذا الحل ليس مثاليًا تمامًا، إذ تحذر سيلفارولي من أن المركبات المسؤولة عن النكهة هي نفسها التي تولد الغاز المسبب للدموع، وبالتالي فإن تقليلها يعني بالضرورة تقليل الطعم اللاذع المميز الذي يمنح البصل قيمته في الطبخ.
اقرأ أيضًا:
قشور البصل الأحمر تحدث ثورة في عالم الطاقة الشمسية
لماذا تسبب البصل في حالة ذعر بالولايات المتحدة؟
حتى بعد الفرشاة.. لماذا تستمر رائحة الفم الكريهة؟ وما الحل؟