على بُعد أقل من 100 ميل من سواحل الصين القارية، تقبع تايوان تلك الجزيرة الصغيرة لا تتجاوز مساحتها مساحة ولاية ميريلاند الأمريكية، لكنها تمتلك تأثيراً جيوسياسياً واقتصادياً يفوق حجمها بآلاف المرات.
تعتبر تايوان، أو "جزيرة السيليكون" كما يلقبها الخبراء، ليست مجرد نقطة جغرافية في المحيط الهادئ، بل هي القلب النابض للتكنولوجيا العالمية، وحجر الزاوية في استراتيجية الدفاع الأمريكية، والميدان الأكثر خطورة للتنافس بين واشنطن وبكين.
في ظل تصاعد الضغوط العسكرية والدبلوماسية الصينية، التي تعتبر الجزيرة "إقليماً منشقاً" يجب استعادته، يبرز السؤال الجوهري في أروقة صنع القرار بواشنطن: لماذا تهم تايوان الولايات المتحدة إلى هذا الحد؟ ولماذا يرى الأمريكيون أن مصير هذه الجزيرة البعيدة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأمنهم القومي وازدهارهم الاقتصادي؟
علاقة الولايات المتحدة وتايوان.. كيف بدأت وماذا عنها الآن؟
الجذور التاريخية.. من الحلف العسكري إلى "الغموض الاستراتيجي"
بدأت القصة في عام 1949، عندما انتهت الحرب الأهلية الصينية بانتصار الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ، مما دفع القوميين المهزومين بقيادة شيانغ كاي شيك للفرار إلى تايوان، وخلال العقود الثلاثة الأولى من الحرب الباردة، اعترفت واشنطن بحكومة تايوان (جمهورية الصين) كحكومة شرعية وحيدة لكل الصين، وكانت حليفاً عسكرياً وثيقاً ضد التمدد الشيوعي.
تحول المنعطف الكبير في عام 1979، عندما قرر الرئيس جيمي كارتر إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع بكين لمواجهة الاتحاد السوفيتي، مما استدعى قطع العلاقات الرسمية مع تايبيه وإلغاء معاهدة الدفاع المشترك، ومنذ ذلك الحين، دخلت العلاقة في إطار "غير رسمي" لكنه فعال للغاية.
قانون العلاقات مع تايوان.. الدستور السري للعلاقة
لم يقف الكونجرس الأمريكي مكتوف الأيدي أمام هذا التحول، فأقر قانون العلاقات مع تايوان (TRA) لعام 1979، حيث يمثل هذا القانون الركيزة القانونية التي تُلزم الولايات المتحدة بـ:
1. توفير الأسلحة اللازمة لتايوان للدفاع عن نفسها.
2. اعتبار أي محاولة لتقرير مستقبل تايوان بوسائل غير سلمية تهديداً للأمن الإقليمي.
3. إنشاء "المعهد الأمريكي في تايوان" (AIT) الذي يعمل كسفارة فعليّة تدير المصالح الأمريكية.
الوضع الراهن.. عصر "الصين الأكثر حزماً"
اليوم، تمر العلاقة بمرحلة هي الأكثر توتراً منذ عقود، فبينما يتمسك البيت الأبيض بسياسة "الصين الواحدة"، إلا أنه عزز بشكل غير مسبوق من دعمه العسكري والدبلوماسي لتايبيه، حيث صرح الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، مراراً بأن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان عسكرياً، بينما اتسمت إدارة ترامب (سواء في ولايتها الأولى أو ملامح الثانية 2025) بنهج أكثر "مقايضة"، حيث يطالب ترامب تايوان بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 10% من ناتجها المحلي الإجمالي مقابل الحماية، مع فرض تعريفات جمركية لضمان التوازن التجاري.
أهمية تايوان الجيوسياسية والعسكرية بالنسبة للولايات المتحدة
لا تكمن أهمية تايوان في قيمتها الذاتية فحسب، بل في موقعها الذي يجعلها مفتاحاً للسيطرة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
1. ركيزة "سلسلة الجزر الأولى"
تقع تايوان عند نقطة محورية ضمن ما يسميه الخبراء العسكريون "سلسلة الجزر الأولى"، وتمتد هذه السلسلة من اليابان شمالاً إلى الفلبين جنوباً، وهي بمثابة سد منيع يمنع البحرية الصينية من الوصول المفتوح وغير المقيد إلى أعماق المحيط الهادئ.
• بقاء تايوان مستقلة: يعني أن الجيش الصيني سيظل محاصراً داخل مياهه الإقليمية، مما يسهل على الولايات المتحدة حماية حلفائها.
• سقوط تايوان في يد الصين: سيمكن بكين من إنشاء قواعد غواصات وأجهزة مراقبة تحت الماء على الساحل الشرقي للجزيرة، مما يهدد الأراضي الأمريكية مباشرة في غوام وهاواي، ويجعل العمليات العسكرية الأمريكية في آسيا محفوفة بالمخاطر.
2. حماية مصداقية التحالفات الأمريكية
تعتبر تايوان الاختبار الحقيقي لمصداقية واشنطن، إذا فشلت الولايات المتحدة في حماية ديمقراطية تايوان أمام العدوان الصيني، فإن حلفاء مثل اليابان، كوريا الجنوبية، والفلبين سيتساءلون: "هل سنكون التاليين؟"، وقد يدفع هذا التشكيك هذه الدول إما للارتماء في أحضان بكين أو السعي لامتلاك أسلحة نووية خاصة بها، وكلا الاحتمالين يمثلان كابوساً للاستقرار العالمي والنفوذ الأمريكي.
3. حصن الديمقراطية في آسيا
تمثل تايوان نموذجاً ديمقراطياً ناجحاً في مجتمع ذو أغلبية صينية، مما يدحض الرواية الصينية بأن "القيم الغربية" لا تتناسب مع الثقافة الشرقية، ونجاح تايوان السياسي يمثل تهديداً أيديولوجياً مستمراً للحزب الشيوعي الصيني، وحمايتها تعني حماية أحد أكثر المجتمعات حرية في العالم.
أرقام وحقائق.. اعتماد الولايات المتحدة والعالم على تايوان
تعد تايوان العمود الفقري للاقتصاد الرقمي العالمي، وإن اعتماد الولايات المتحدة على الرقائق التايوانية ليس مجرد تفضيل تجاري، بل هو تبعية وجودية.
أرقام وإحصاءات لا يمكن تجاهلها في 2024-2025، حول سيطرة تايوان على الإنتاج العالمي في بعض القطاعات:
- إجمالي أشباه الموصلات: 70 %
- الرقائق الأكثر تطوراً (أقل من 7 نانومتر): 90 %
- القدرة الحاسوبية السنوية للعالم: 33% (يتم تصنيعها في تايوان)
- صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي لأمريكا (يونيو 2025): 11.5 مليار دولار
لماذا تعتبر شركة TSMC "أهم شركة في العالم"؟
شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات (TSMC) ليست مجرد مصنع؛ إنها المسبك الذي يغذي عمالقة التكنولوجيا الأمريكية، فبدون TSMC، ستتوقف شركات مثل:
• Apple: عن إنتاج أجهزة iPhone (شريحة A12 وما بعدها تعتمد كلياً على تايوان).
• Nvidia: عن إنتاج وحدات معالجة الرسومات اللازمة لثورة الذكاء الاصطناعي.
• القطاع العسكري: عن الحصول على الرقائق المتطورة للطائرات المقاتلة والصواريخ الذكية.
وتُقدر الخسائر العالمية في حال حدوث غزو أو حصار لتايوان بـ تريليونات الدولارات، حيث سيؤدي توقف شحن الرقائق إلى ركود اقتصادي عالمي لا يقل حدة عن "الكساد الكبير"، نظراً لأن الرقائق تدخل في كل شيء بدءاً من الغسالات إلى أنظمة الرادار.
دور تايوان في جهود الأمن الاقتصادي الأمريكي
في السنوات الأخيرة، أدركت واشنطن أن "كعب أكيليس" الخاص بها هو تركز إنتاج الرقائق في جزيرة معرضة للحرب، ومن هنا، أصبحت تايوان شريكاً محورياً في استراتيجية "الأمن الاقتصادي" الأمريكي، من خلال الآتي:
1. إعادة التوطين والسياسة الصناعية (CHIPS Act)
بموجب قانون الرقائق والعلوم الأمريكي، خصصت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لجذب الشركات التايوانية للتصنيع على الأراضي الأمريكية.
• مشروع أريزونا: التزمت شركة TSMC باستثمار أكثر من 65 مليار دولار لبناء ستة مصانع متطورة في ولاية أريزونا.
• الهدف: ضمان وجود "خطة ب" في حال تعطلت الإمدادات من الجزيرة، وتأمين سلاسل التوريد للصناعات الدفاعية والسيارات.
2. "صديق-شورينغ" (Friend-shoring)
تعمل تايوان كشريك استراتيجي في تقليل الاعتماد العالمي على الصين، فالشركات التايوانية مثل Foxconn (المجمع الأكبر لهواتف آيفون) بدأت بالفعل في نقل أجزاء كبيرة من خطوط إنتاجها من الصين إلى الهند وفيتنام والمكسيك، بالتنسيق مع التوجهات الأمريكية لفك الارتباط الاقتصادي مع بكين.
3. حدود التوطين و"درع السيليكون"
رغم محاولات واشنطن "توطين" الصناعة، إلا أن الخبراء يؤكدون أن تايوان ستظل لا غنى عنها.
• التكلفة والعمالة: تواجه المصانع التايوانية في أمريكا تحديات تتعلق بنقص العمالة الماهرة وارتفاع تكاليف الإنتاج بنسبة 40% مقارنة بتايوان.
• الابتكار: تايوان تحتفظ بالجيل الأحدث من التكنولوجيا (مثل رقائق 2 نانومتر) داخل حدودها كنوع من التأمين السياسي، لضمان أن يظل العالم -والولايات المتحدة- بحاجة للدفاع عنها.
مستقبل الصراع.. تحديات عام 2025 والموقف الأمريكي المتقلب
شهد عام 2025 تصعيداً غير مسبوق، مثل انتخاب لاي تشينغ تي رئيساً لتايوان، وهو الذي تصفه بكين بـ "الانفصالي الخطير"، دفع الصين لتكثيف مناوراتها العسكرية مثل "ستريت ثاندر-2025A".
بينما يصر الديمقراطيون على الالتزام بالدفاع عن تايوان كجزء من نظام دولي قائم على القواعد، يتبنى تيار في الحزب الجمهوري بقيادة ترامب نهجاً "تجاريًا"، ويرى هذا التيار تايوان كمنافس تجاري في بعض الجوانب (خاصة بعد وصول الفائض التجاري التايواني مع أمريكا لمستويات قياسية بلغت 154 مليار دولار في الربع الثاني من 2025).
هذا التذبذب يضع تايوان أمام خيار صعب: زيادة الإنفاق الدفاعي وشراء المزيد من الأسلحة الأمريكية، أو مواجهة خطر تخفيف المظلة الأمنية واشنطن.
يمكنك أن تقرأ أيضًا:
مشروع مانهاتن الصيني.. هل ينهي احتكار تايوان للرقائق؟
سياسة التحيّز الاستراتيجي.. هكذا تٌدير أمريكا علاقتها مع تايوان














