يحل اليوم الوطني الخامس والتسعين على المملكة العربية السعودية تحت شعار “عزنا بطبعنا”، غدًا الثلاثاء 23 سبتمبر 2025، ويُعد مناسبة تاريخية بارزة، إذ يخلّد إعلان توحيد أرجاء المملكة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود في اليوم ذاته من عام 1932، وتأسيس المملكة باسمها الحالي، ليصبح رمزًا للفخر والانتماء الوطني.
وعبر مسيرتها الممتدة لعقود رسخت المملكة حضورها الدولي في مختلف المجالات، لتصبح نموذجًا رائدًا في النهضة الاقتصادية، والاجتماعية، والابتكارات التنموية، مستندةً إلى ثوابت الهوية السعودية التي أرساها الملك عبدالعزيز حين وحّد دولة راسخة الجذور، دستورها كتاب الله وسنة نبيه، ورايتها التوحيد.
ويأتي اليوم الوطني ليجسّد معاني الفخر والانتماء، حيث يعيش المواطن والمقيم والزائر على أرض المملكة نهضة شاملة تتجلى في جودة الحياة، ومشاريع البنية التحتية، وتعزيز المكانة الدولية للمملكة، التي لا تعرف حدودًا لطموحها نحو مستقبل يليق بمكانتها وريادتها.
شكّلت استعادة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله – لمدينة الرياض في 5 شوال 1319هـ/15 يناير 1902م نقطة انطلاق لمسيرة تاريخية جديدة، وبداية مرحلة التوحيد التي أفضت إلى قيام الدولة السعودية الحديثة. وقد خضعت جميع المناطق والمدن لقيادته، وأُطلق على الدولة بعد عام 1345هـ/1926م اسم “مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها”، وحمل حينها اللقب الرسمي “ملك الحجاز ونجد وملحقاتها”.
ومن أبرز ملامح هذه المرحلة التفاف سكان المدن والقرى والبوادي حوله، إذ بايعوه على السمع والطاعة وشاركوه أهدافه في الوحدة والاستقرار.
وكانت استعادة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- لمدينة الرياض في الخامس من شوال 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م نقطة الانطلاق لمسيرة تاريخية جديدة في المملكة. وقد مثل هذا الحدث بداية مرحلة التوحيد التي قادت إلى نشأة الدولة السعودية الحديثة. وبعد عام 1345هـ/1926م أُطلق على الدولة اسم “مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها”، وكان لقبه الرسمي آنذاك “ملك الحجاز ونجد وملحقاتها”.
ولد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله – في مدينة الرياض عام 1293هـ، وترعرع فيها نهلًا من علمائها، حيث تمثل الرياض امتدادًا تاريخيًا لمسيرة الآباء والأجداد (وفق مجلد سيرة وشخصية الملك عبدالعزيز ومراحل بناء الدولة السعودية الثالثة – طباعة دارة الملك عبدالعزيز).
حرص والده، الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود – رحمه الله – على تنشئته وتعليمه، فوُكل القاضي عبدالله الخرجي لتعليم الملك عبدالعزيز القرآن الكريم والقراءة والكتابة منذ سن السابعة، ثم تلقى في سن العاشرة تحصيله في الفقه والتوحيد على يد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ. وبالتوازي، تعلم ركوب الخيل ومهارات الفروسية.
وتأثرت شخصية الملك عبدالعزيز كثيرًا بشخصيّة والده الإمام عبدالرحمن الفيصل -رحمهما الله- حيث كان أبًا وُمعلمًا وأخًا وصديقًا لابنه، فضلًا عن شخصية والدته الأميرة سارة السديري التي كانت من أكمل النساء عقلًا وتدبيرًا، وكان محبًا لإخوته (خالد، وفيصل، وفهد، ومحمد، ونورة)، لكن علاقته بالأميرة نورة -رحمها الله- كانت أكثر حميمية، واحتلت مكانة كبيرة في نفسه -رحمه الله-، حتى إنه ينتخي بها بالقول: “أنا أخو نورة أنا أخو الأنوار”، ويحرص على زيارتها يوميًا في منزلها.
امتاز الملك عبدالعزيز – رحمه الله – بشخصية قوية آسرة ومهابة، مع ابتسامة مشرقة وطابع متواضع ومرح، ولم يكن متكلفًا في حديثه مع شعبه ورعيته. كما عرف بالكرم والسخاء، فكان ملكًا ورجل أسرة ومحبًا للجميع، وقدوة في أفعاله وسلوكياته.
وعُرف احترامه الكبير للعلماء، فكان يقدمهم على إخوته في مجلسه ويستمع إليهم، انطلاقًا من إيمانه بقيمة العلم وأثر العلماء في الحياة، ومنهج الإسلام في حسن التعامل معهم. وقد استمر أنجاله الملوك البررة على هذا النهج في حياتهم العامة والخاصة.
مرّ الملك عبدالعزيز – رحمه الله – بمحطات عدة أسهمت في تشكيل شخصيته الفذة، خاصة منذ سن الخامسة عشرة، إذ علّمته الصبر والقوة والإقدام.
وقد اعتُبر خروج الملك عبدالعزيز ووالده الإمام عبدالرحمن – رحمهما الله – وبعض أفراد الأسرة من الرياض عام 1308هـ أصعب أحداث حياته. كانت محطتهم الأولى واحة “يبرين” بالأحساء، ثم البحرين، وصولًا إلى الكويت، حيث استقروا لعدة سنوات، وظل قلب الملك عبدالعزيز معلّقًا بالرياض.
عودة الرياض وبداية العهد الزاهر
اتخذ الملك المؤسس واحة “يبرين” بالأحساء مقرًا له لتنفيذ خطته لإعادة الرياض، وهي تقع بمحاذاة رمال الربع الخالي من الشمال.
وفي العشرينيات من عمره، انطلق الملك عبدالعزيز من الكويت في الخامس من رمضان 1319هـ في رحلة بطولية مع رجاله، مخترقين الصحراء الحارقة صائمين، حتى وصلوا يوم العيد إلى موقع “أبو جفان”.
وفي الرابع من شوال 1319هـ وصلوا إلى “ضلع الشقيب” على بعد نحو ساعة ونصف من الرياض، ثم دخلوا المدينة بذكاء القائد المحنك. أعاد الملك عبدالعزيز الأمور إلى نصابها بعد عملية بطولية لم تدم طويلًا، وطوى زمن العهد الغابر، معلنًا بداية العهد الزاهر في نجد، بعد أن بايعه أهالي الرياض وأعيانها عام 1320هـ أميرًا على نجد وإمامًا لأهلها، عقب صلاة الجمعة في المسجد الكبير. دَبّ الاستقرار السياسي، ومهّدت وحدة الحكم دخول الرياض مرحلة جديدة من النمو والازدهار الحضاري.
وتمكن الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- بفضل الله تعالى عبر رحلة طويلة أضناه فيها طول المشي والتفكير من لملمة شتات البلاد، وإعادة الأمن، والتصدي للفوضى التي كانت سائدة في الجزيرة العربية آنذاك، وأصبح بمحبة الناس ملكًا لدولة سهر على بنائها، وأوجد نظامها حتى أصبحت لها مواقف مشرّفة مع الأمتين العربية والإسلامية والعالم أجمع.
ووجَّه الملك عبدالعزيز عند بداية تنظيم الدولة بالاهتمام بالحرمين الشريفين وتوسعتهما، وخدمة الحجاج والمعتمرين، فضلًا عن البدء في فتح المدارس، وإنشاء المستشفيات، وبناء القرى، وإصلاح التربة، وتوطين البادية، والتنقيب عن مياه الري من أجل دعم الزراعة، بيد أن هذه الجهود كانت تتطلب توفير المال لتنفيذها.
وتماشيًا مع الرغبة في النهوض بالبلاد، بدأت في خريف عام 1933م عمليات التنقيب عن النفط في بعض أراضي المملكة، لكن مضت أربعة أعوام عجاف لم تثمر أعمالها عن الوصول إلى نتيجة إيجابية مرضية لاكتشاف مكامن النفط، إلى أن قرّر الخبراء التنقيب حول بئر ماء في منطقة تسمى “عين جت” كان الملك عبدالعزيز قد توقّف عندها عام 1319هـ في طريقه من الكويت إلى الرياض، فكانت المفاجأة وجود النفط على عمق 5 آلاف قدم تحت الأرض.
وانتعشت الأرض الصحراوية بخروج الذهب الأسود الذي حوّل الصحراء القاحلة المؤنسة بهبوب الرياح إلى مدينة مزدحمة بالعمال والمهندسين وخبراء النفط.
وفي عام 1939م ضخ النفط أول بشائره في احتفال شهده الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، ليستهل بعدها مشروعات الدولة التي خطط لها -رحمه الله-.
وكان اهتمام الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بالشأن الخارجي بنفس اهتمامه بالشأن الداخلي، إذ كان يتعامل مع جميع دول العالم بدبلوماسية عالية المستوى، آخذًا بعين الاعتبار استقلال المملكة بقرارها واختيار طبيعة علاقاتها مع الدول دون الإخلال بمكانتها الدينية والحضارية والثقافية وهو ما جعله محبوبًا من مختلف قادة دول العالم، وأصبح حديث الإعلام العربي والإقليمي والدولي في ذلك الوقت.
ترجل الفارس الملك عبدالعزيز – رحمه الله – عن صهوة جواده في شهر محرم 1373هـ إثر مرض ألمّ به أثناء إقامته في الطائف، وفاضت روحه في فجر الثاني من ربيع الأول 1373هـ/9 نوفمبر 1953م.
رحل بعد رحلة طويلة حافلة بالأحداث والتحديات، تاركًا إرثًا عظيمًا للأجيال، دولة أسّسها على التوحيد لتظل – ولله الحمد – مزدهرة، آمنة، وخيرة حتى اليوم. ووري جثمانه الثرى في مقبرة العود وسط مدينة الرياض.
حرص الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله – على جمع المؤلفات العلمية والاطلاع على الكتب العربية في مختلف العلوم، خاصة الشرعية، وطبع معظمها على نفقته الخاصة، ووزعها مجانًا على الناس وطلبة العلم داخل المملكة وخارجها. كما دعم المؤلفين بشراء نسخ عديدة من كتبهم للحفاظ على نشاطهم العلمي.
تضمنت مكتبة الملك عبدالعزيز في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض معارف نادرة في العلوم الشرعية، التراجم، الجغرافيا، التاريخ الإسلامي والعام، واللغة العربية وآدابها، مرتبة وفق فهرسة رقمية لتسهيل البحث للدارسين. وقد أصبحت المكتبة مصدرًا مهمًا للتاريخ الحديث في المملكة، خصوصًا فيما يتعلق بعلاقة الملك عبدالعزيز بالعلم والمعرفة، حيث تحمل كتبها شواهد تاريخية من مؤرخين معروفين في العالمين العربي والإسلامي.
ويمضي بنا هذا التاريخ المشرف لنعيش معاني قوة الرجل الباني المؤسس الملك عبدالعزيز ورجاله الذين -برغم قلة عددهم وعتادهم- انطلقوا من الرياض بذلك الإيمان الصادق في جهاد، حتى جمع الله به الصفوف، وأرسى دعائم الحق والعدل والأمن والأمان لتتوحد القلوب على كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكذلك أرجاء البلاد، إذ أينعت حينها تلك الجهود أمنًا وأمانًا واستقرارًا وتحول المجتمع من قبائل متناحرة إلى شعب متحد ومستقر يسير على هدي الكتاب والسنة.
وانطلاقًا من النهج الإسلامي القويم دعا -رحمه الله- إلى التعاون العربي والتضامن الإسلامي، وأسهم إسهامًا متميزًا في تأسيس جامعة الدول العربية، وفي الأمم المتحدة عضوًا مؤسسًا، كما سجّل له التاريخ مواقف مشهودة في كثير من الأحداث العالمية والقضايا الإقليمية والدولية.
ولقد انتهج الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- في تعامله مع مواطنيه سياسة قائمة على الشورى والتناصح مع الرعية، واغتنام الفرص لتبادل الرأي والنصح، مسترشدًا بما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف.
وكان لهذا النهج القويم الذي سار عليه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وتبعه في ذلك أبناؤه من بعده الأثر الكبير فيما تعيشه المملكة من تطور قائم على تعاضد الدولة والمواطنين.
وقد أدرك الملك عبدالعزيز بثاقب بصره، أن التلاحم والتواصل بين القيادة والشعب وسياسة الباب المفتوح هما من أفضل السبل وأنجعها لخدمة الوطن والمواطنين ولتقدم البلاد ورقيها.
في الحفل الذي أقامه الملك عبدالعزيز في جدة في 25 محرم 1355هـ بمناسبة انتهاء موسم الحج وقرب سفره إلى الرياض، أكد – رحمه الله – حرصه على التواصل المباشر مع الشعب، قائلاً: “إنني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقًا دائمًا؛ لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب، لذلك سيكون مجلسي مفتوحًا لحضور من يريد الحضور.”
واستمرارًا لهذا النهج، قال في خطابه بمناسبة سفره إلى الرياض في 2 صفر 1355هـ: “إنّ على الشعب واجبات، وعلى ولاة الأمر واجبات… إن خدمة الشعب واجبة علينا، فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا، ومن لا يخدم شعبه ويخلص له فهو ناقص.”
وفي الخطاب الذي ألقاه -رحمه الله- في المأدبة الكبرى لكبار حجاج بيت الله الحرام في مكة المكرمة في 9 ذي الحجة عام 1364هـ، خصّص الجانب الأكبر من خطابه للحديث عن قضية فلسطين، وقال: “إنّ مسألة فلسطين هي أهم ما يشغل أفكار المسلمين والعرب في هذه الأيام… فالسكوت عن قضية فلسطين لا يوافق المصلحة… وطلبت من الرئيس الراحل إنصاف عرب فلسطين إن لم يكن بالمساعدات الفعلية، فعلى الأقل الوقوف على الحياد وعدم مساعدة اليهود عليهم”.