logo alelm
دولة واحدة في العالم حققت الاكتفاء الذاتي الغذائي

في ظل تنامي التوجهات القومية، والتحديات المتزايدة التي تواجه سلاسل الإمداد الغذائي العالمية جراء الأزمات والاضطرابات، بالإضافة إلى الجهود المتزامنة لتعزيز النظم الغذائية المستدامة، يتصاعد القلق حول قدرة الدول على تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، ما يعني تلبية الاحتياجات الغذائية لسكانها بالاعتماد على الإنتاج المحلي وحده. كشفت دراسة حديثة، نُشرت في مايو 2025 بمجلة “Nature Food” تحت عنوان “الفجوة بين الإنتاج الغذائي الوطني والإرشادات الغذائية القائمة على الغذاء تسلط الضوء على نقص الاكتفاء الذاتي الوطني”، عن واقع معقد: أكثر من ثلث دول العالم لا تستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي لأكثر من مجموعتين غذائيتين أساسيتين من أصل سبع. هذه المعطيات تضع تحديات جمة أمام الأمن الغذائي العالمي، وتستدعي تحليلاً أعمق لمفهوم الاكتفاء الذاتي في سياق الأزمات المعاصرة.

غيانا تتصدر: نموذج الاكتفاء الغذائي الذاتي الفريد

في مشهد عالمي يتسم بالاعتماد المتبادل، تبرز دولة واحدة فقط كنموذج استثنائي للاكتفاء الذاتي الكامل عبر المجموعات الغذائية السبع الرئيسية: غيانا. بفضل مواردها الطبيعية الوفيرة من السهول الغرينية الخصبة، والمصايد النهرية الغنية، والمراعي الشاسعة، تنتج غيانا ما يفوق احتياجات سكانها البالغ عددهم 900 ألف نسمة من الفاكهة، الخضراوات، البقوليات والمكسرات، النشويات الأساسية، اللحوم، الأسماك، ومنتجات الألبان. هذا الإنجاز يعكس قدرة استثنائية على الصمود أمام تقلبات السوق العالمية، ويقدم درساً قيّماً للدول التي تسعى لتعزيز أمنها الغذائي.

خطر الاعتماد المفرط والفجوات الغذائية

تُظهر الدراسة بوضوح أن الاكتفاء الذاتي الغذائي الشامل ليس القاعدة، بل الاستثناء. فبالإضافة إلى غيانا، لا يتجاوز عدد الدول التي تحقق اكتفاء ذاتياً في خمس مجموعات غذائية أو أكثر السبعة عشرة دولة (واحد من كل سبعة بلدان تم اختبارها). بينما تأتي فيتنام والصين في المرتبة التالية بعد غيانا، محققتين الاكتفاء في ست مجموعات غذائية.

أوروبا: فجوة الفاكهة والخضراوات تُثير القلق

على الرغم من الصورة النمطية لأسواقها الغنية، تواجه بعض الدول الأوروبية الكبرى نقصاً حاداً في إنتاجها المحلي للفاكهة والخضراوات. فعلى سبيل المثال، لا تلبي روسيا سوى 33% من احتياجاتها من الفاكهة، بينما تسجل لاتفيا 13% وإستونيا 3% فقط. هذا الاعتماد على الاستيراد يجعلها عرضة لاضطرابات سلاسل الإمداد العالمية. في المقابل، تبرز إسبانيا كنموذج إيجابي في جنوب أوروبا، حيث تنتج أربعة أضعاف احتياجاتها وتصدر الفائض، مما يسلط الضوء على تباينات إقليمية كبيرة داخل القارة.

آسيا: معضلة الألبان المستمرة

بالنسبة للكثير من الدول الآسيوية، لا تزال منتجات الألبان تمثل تحديًا كبيراً في تحقيق الاكتفاء الذاتي. على سبيل المثال، تسجل فيتنام والصين اكتفاءً ذاتيًا في الألبان بنسبة 14% و29% على التوالي، على الرغم من قوتهما في مجموعات غذائية أخرى. ويعزى ذلك إلى عدة عوامل منها المناخات الاستوائية، ومحدودية المراعي، والأنماط الغذائية الثقافية. ومع ذلك، تشكل قيرغيزستان وأوزبكستان استثناءً لافتاً، حيث تتجاوزان احتياجاتهما المحلية من الألبان بفضل الاستفادة من الرعي في المرتفعات.

الولايات المتحدة: قوة إنتاجية مع نقاط ضعف إستراتيجية

تتموضع الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف الترتيب العالمي، محققةً الاكتفاء الذاتي في أربع مجموعات غذائية من أصل سبع، وهو ما يتماشى مع كندا ويُعد ضعف ما تحققه المملكة المتحدة. تتفوق الولايات المتحدة في إنتاج البقوليات، النشويات الأساسية، اللحوم، ومنتجات الألبان بإنتاج يتجاوز 100% بكثير. لكنها لا تزال تواجه تحديات في الفاكهة (70%)، الخضراوات (61%)، والأسماك (43%)، مما يستدعي الاعتماد على الواردات. وعلى الرغم من القدرات الإنتاجية الهائلة، يشير الخبراء إلى أن استيراد بعض السلع الغذائية قد يكون خيارًا اقتصاديًا أكثر فعالية على المدى الطويل، ما لم تكن هناك مخاطر جيوسياسية أو بيئية تؤثر على سلاسل الإمداد.

التهديد الخفي للاعتماد على الاستيراد

يؤكد الدكتور جوناس ستيل، الباحث في جامعة غوتنغن والمؤلف الأول للدراسة، أن “المستويات المنخفضة من الاكتفاء الذاتي ليست سيئة بطبيعتها”، فغالباً ما تكون هناك أسباب اقتصادية أو بيئية وجيهة لعدم إنتاج بلد ما لغالبية غذائه. قد يكون الاستيراد أكثر كفاءة من المناطق التي تتمتع بظروف مثالية للإنتاج.

ومع ذلك، يشدد ستيل على نقطة بالغة الأهمية: “يمكن للمستويات المنخفضة من الاكتفاء الذاتي أن تقلل من قدرة البلد على الاستجابة لصدمات الإمدادات الغذائية العالمية المفاجئة مثل الجفاف، الحروب، أو حظر التصدير”. هذا البعد يصبح أكثر إلحاحاً في ضوء تنامي التوجهات القومية التي قد تدفع الدول إلى تقييد صادراتها لحماية أسواقها المحلية. فالدول الصغيرة والجزرية والدول الواقعة في شبه الجزيرة العربية والدول منخفضة الدخل هي الأكثر عرضة لخطر الاعتماد المفرط على الواردات، مما يعرض أمنها الغذائي للخطر في أوقات الأزمات.

نقص البروتينات النباتية والخضراوات

كشفت الدراسة أيضًا عن نقص عالمي في بعض الأغذية الغنية بالمغذيات. فأقل من نصف الدول المشاركة في الدراسة تنتج ما يكفي من البروتينات النباتية (مثل الفول، الحمص، العدس، المكسرات والبذور)، أو الكربوهيدرات النشوية. والأكثر إثارة للقلق هو أن 24% فقط من الدول تنتج ما يكفي من الخضراوات. في المقابل، وجدت الدراسة أن 65% من الدول تنتج فائضاً من اللحوم ومنتجات الألبان مقارنة باحتياجات شعوبها الغذائية. هذا التفاوت يسلط الضوء على ضرورة إعادة التوازن في أنظمة الإنتاج الغذائي العالمية لتتوافق بشكل أفضل مع الإرشادات الغذائية المستدامة، مثل نظام “Livewell Diet” الذي يأخذ بعين الاعتبار استدامة مصادر الغذاء.

نحو استراتيجيات مرنة لأمن غذائي مستدام

في ظل التداعيات الاقتصادية والسياسية لأحداث عالمية كجائحة كوفيد-19 والصراع الروسي الأوكراني، والذي أثر بشدة على سلاسل الإمداد، عاد الاهتمام بالاكتفاء الذاتي الغذائي بقوة. يؤكد ستيل أن هذا “الاهتمام المتجدد” قد يعكس أيضاً تحولات سياسية أوسع، بما في ذلك تنامي النزعة القومية والرغبة في تقليل الاعتماد على الدول الأجنبية. إن بناء سلاسل إمداد غذائية مرنة ومستدامة لم يعد ترفاً، بل أصبح ضرورة حتمية لضمان الصحة العامة والأمن الغذائي للشعوب في عالم يزداد تعقيداً وترابطاً.

شارك هذا المنشور:

المقالة السابقة

تحت ضغط دولي.. الاحتلال يلوّح بـ”هدنة إنسانية” في غزة

المقالة التالية

لماذا لا توجد كاميرات في قمرة القيادة في الطائرات؟