سياسة

مكالمة ترامب وبوتين تشعل توترًا أمريكيًا أوروبيًا

مكالمة ترامب وبوتين تشعل توترًا أمريكيًا أوروبيًا

اضطربت العلاقات الأمريكية الأوروبية عقب مكالمة هاتفية جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، دشنت لما عدّه مراقبون تحولًا جذريًا في نهج واشنطن تجاه الأمن الأوروبي، وهددت بإعادة تشكيل أسس التحالف عبر الأطلسي.

حيث أعاد ترامب، خلال المكالمة التي جرت، الأربعاء الماضي، تأكيد مواقفه السابقة المشككة في جدوى الدفاع عن حلفاء لم يلتزموا بالإنفاق الدفاعي الكافي، مشددًا على ضرورة تركيز بلاده على أمن حدودها وصراعها المتصاعد مع الصين.

ويقصد ترامب بشكل رئيسي الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وخاصة ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، إلى جانب دول أوروبية غربية أخرى، التي اتُهمت مرارًا بعدم الوفاء بتعهداتها بإنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو الحد الأدنى الذي تم الاتفاق عليه في قمة الناتو عام 2014.

وشكّل حديث وزير الدفاع الأمريكي بيت هاجسيث، في اليوم نفسه، صدمة للأوروبيين، إذ حدد سقفًا جديدًا لمساهمة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو» بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، محذرًا من أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع علاقات مختلة تشجع الاتكالية، وفقًا لما نقلته شبكة «سي إن إن».

هل تعيد واشنطن النظر في التزاماتها التاريخية؟

أزاحت تلك التصريحات الستار عن قطيعة مع الإرث الأمريكي في أوروبا، إذ ظلت الولايات المتحدة، منذ الحربين العالميتين، الضامن الأول لأمن القارة العجوز في وجه الخطر السوفيتي. غير أن ترامب، الذي طالما أعرب عن ازدرائه للالتزامات متعددة الأطراف، عاد إلى خطاب عزلة أمريكية مألوف في بدايات الجمهورية، قائلاً: «لدينا شيء صغير يدعى المحيط».

وأوضح هاجسيث أن واشنطن ستُخفض من أولوية أوروبا لصالح آسيا وحماية الحدود، في وقت أكد فيه وزير الخارجية ماركو روبيو أن بلاده يجب أن تكون «الداعم الأخير» لأمن أوروبا، وليس «في مقدمة الصفوف»، منتقدًا تفضيل الأوروبيين الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية على حساب تعزيز دفاعاتهم. ونقلت إذاعة «سيريوس إكس إم» عنه قوله: «نحن نمول رفاهيتهم»؟

لماذا فاقمت الحرب الأوكرانية الانقسام؟

اشتدت المخاوف الأوروبية بعد أن كشف ترامب عزمه بدء مفاوضات فورية لإنهاء حرب أوكرانيا خلال اتصاله ببوتين، مستثنيًا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من المحادثة.

ولاحقًا، تحدث ترامب مع زيلينسكي، لكن تهميش كييف أثار خشية الحكومات الأوروبية من صفقة تلتف على مطالب أوكرانيا.

حدد هاجسيث ملامح التسوية المنتظرة، قائلًا إن واشنطن لن تدعم عودة أوكرانيا لحدود ما قبل 2014، ولن تؤيد انضمامها إلى «الناتو»، ولن ترسل قواتها لضمان أي اتفاق سلام مستقبلي.

وأشار وزير الدفاع الأمريكي إلى أن قوات حفظ السلام، إن وُجدت، ستكون أوروبية وغير مشمولة بمظلة الدفاع المشترك للحلف، ما يعني أن الولايات المتحدة لن تتدخل حال اندلاع مواجهة جديدة مع روسيا، حسبما أوردت «سي إن إن».

كيف استقبلت أوروبا التحول الأمريكي؟

عبرت عواصم أوروبية عدة عن صدمتها، حيث أصدر قادة فرنسا وألمانيا وبولندا وإيطاليا وإسبانيا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بيانًا مشتركًا يؤكد أن «أوكرانيا وأوروبا يجب أن تكونا جزءًا من أي مفاوضات»، مشددين على أن «سلامًا عادلًا ودائمًا شرطٌ لأمن عبر أطلسي قوي».

واستحضر رئيس الوزراء السويدي الأسبق، كارل بيلدت، ذكرى «اتفاق ميونيخ» عام 1938، الذي سمح لأدولف هتلر باجتياح تشيكوسلوفاكيا، محذرًا من أن «ما حدث بين ترامب وبوتين يُذكّر الأوروبيين بتلك اللحظة».

هل تصمد أوكرانيا في غياب الدعم الأمريكي؟

تحقق هذا التحول في وقت عجزت فيه أوكرانيا عن استعادة أراضيها، رغم مليارات الدولارات من المساعدات الغربية. وقال هاجسيث: «لم يعد بإمكان أحد العودة إلى وضع ما قبل 2014». واعتبر أن الطرح الأمريكي يترجم حقيقة ماثلة، إذ باتت التسوية الواقعية أقرب إلى تقسيم أوكرانيا بين غرب مرتبط بالاتحاد الأوروبي، وشرق خاضع لسيطرة موسكو، على غرار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

من جهتد قال نيكولاس دانجان، مؤسس شركة «كوجيتوبراكسيس» الاستشارية في لاهاي، إن «الموقف الأمريكي اليوم كان يُهمس به سرًا في أروقة العواصم الأوروبية منذ عامين»، مشيرًا إلى أن «أوروبا الغربية نعم، وأوكرانيا الشرقية لا» هو التوجه الفعلي.

ما دلالة هذا التحول على ميزان القوى؟

ويرى دانجان أن الأمر ليس مجرد أزمة في العلاقات عبر الأطلسي، بل «نظام عالمي جديد قائم على تنافس القوى العظمى، بديلًا للبنيان الليبرالي الدولي». دعم ذلك تحليل صحيفة «نيويورك تايمز» بأن جيل الحرب العالمية الثانية، الذي أدرك فراغ القوة في أوروبا، رحل، فيما صارت الصين المنافس الأكبر لأمريكا.

قال ترامب سابقًا عن بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ: «إنهما ذكيان وأقوياء»، معبرًا عن إعجابه بأسلوبهما السلطوي، في وقت وصف فيه تعامل كندا والمكسيك والدنمارك مع بلاده بـ«الاستغلال».

لماذا يقلق الأوروبيون من قمة سعودية؟

وفي السياق نفسه أعلن ترامب اعتزامه لقاء بوتين في قمة مرتقبة بالسعودية، ما زاد المخاوف من أن يتجاوز واشنطن حلفاءها الأوروبيين. حيث استشهد بيلدت بقول رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين: «سلام في زماننا»، معقبًا: «الكثير من الأوروبيين يتذكرون كيف انتهى ذلك الفيلم».

هل يفقد الغرب وحدته؟

أقر بايدن سابقًا بمخاطر انضمام أوكرانيا لـ«الناتو»، مخافة اندلاع حرب مع روسيا، فيما لقي تشديد ترامب على أن قوات حفظ السلام لن تحمل راية الحلف تأييدًا من بعض المحللين. وقال هاجسيث: «نحن نتحدث عن الواقعية»، مشيرًا إلى أن استبعاد إعادة الأراضي المحتلة سيسلب كييف ورقة تفاوضية مهمة.

وختم دانجان تصريحه لـ«سي إن إن»: «معونة أمريكية لأمن أوروبا ليست قدرًا حتميًا، وما نشهده هو عودة إلى منطق النفوذ الإقليمي».

مكالمة ترامب وبوتين تشعل توترًا أمريكيًا أوروبيًا