في كل علاقة حبّ، يبدأ الأمر غالبًا بشرارة غامضة؛ اختلاف يثير الفضول، أو طبع مناقض يبدو جذّابًا في البداية، لكن ما إن يمرّ الوقت، حتى تتحوّل تلك الفوارق التي صنعت الانجذاب الأول إلى مصدر صدام أو سوء فهم. وهنا، كما يقول عالم النفس الأميركي مارك ترافيرز، تبدأ الحقيقة في الظهور، فليست الاختلافات ما يحافظ على علاقة طويلة الأمد، بل «ما يتشاركه الطرفان من إيقاع نفسي ومعنوي» يجعل العيش معًا ممكنًا وممتعًا في آن.
يقول ترافيرز، وهو باحث في العلاقات الزوجية وخبير في العلاج النفسي عبر الإنترنت، إن «الانسجام الطويل لا يعتمد على عدد أوجه الشبه أو الاختلاف بين شخصين، بل على الكيفية التي يلتقيان بها في وسط المشترك».
من هذا المنطلق، يقدّم العالم الأميركي خلاصة دراسته التي أجراها على مئات الأزواج، محددًا خمس سمات يشترك فيها من يعيشون أكثر العلاقات استقرارًا وسعادة.
الضحك المشترك.. مرآة الألفة
ليس المطلوب أن يشاهد الزوجان الكوميديان نفسه، أو أن يتبادلا النكات ذاتها، بل أن «يضحكا على العالم بالطريقة نفسها». فالضحك، كما يرى ترافيرز، ليس مجرد وسيلة للتسلية، بل آلية نفسية تخلق تواطؤًا إنسانيًا نادرًا بين اثنين.
الأزواج السعداء، بحسبه، يملكون بنكًا من المواقف الطريفة والمراجع الخاصة التي لا يفهمها سواهم. هذا الرصيد العاطفي، الذي يُبنى على مدى السنوات، يتحوّل إلى طوق نجاة أثناء الأزمات، فحين تتعقّد الأمور، يعيدهم المزاح المشترك إلى منطقة الأمان.
لغة الحوار الواحدة
حين يختلف الناس، لا يكمن الخطر في الخلاف ذاته، بل في «الطريقة» التي يُدار بها. بعض الأزواج يفضلون المواجهة المباشرة، وآخرون يحتاجون إلى مسافة من الهدوء قبل النقاش. لا مشكلة في أي من الطريقتين، ما داما متفقين على الإيقاع نفسه.
في العلاقات المتماسكة، لا يشعر أحد الطرفين بأنه «مباغت» أو «مهمل»، يتفق الاثنان على متى يتحدثان، وكيف يعبّران عن الانزعاج، ومتى يمنحان المساحة. يقول ترافيرز، إن «الاتساق في أسلوب التواصل هو ما يمنح الثقة، لا غياب الخلاف».
الإيقاع الاجتماعي
يحدث كثيرًا أن يجمع الحب بين شخص منفتح يحب الحفلات، وآخر يميل إلى العزلة. في البداية يبدو ذلك مكمّلًا، لكنه مع الوقت قد يصير عبئًا. الأزواج السعداء، كما لاحظ ترافيرز، لا يتطابقون بالضرورة في درجة انفتاحهم، لكنهم ينسجمون في تقديرهم للطاقة الاجتماعية المطلوبة.
لا يشعر أحدهم بأنه مضطر للسهر حين يتعب، أو بأنه يعاقَب إن رغب بالبقاء في المنزل، حتى حين تختلف الرغبات، فإنها تُدار دون «ذنب أو غضب»، بل بفهم لحاجة الآخر. هذا التوازن يجعل الحياة الاجتماعية مساحة للراحة، لا ساحة للصراع.
فضول مشترك تجاه العالم
الموسيقى، والسينما، والطعام، والسفر، والكتب… ليست تفاصيل ترفيهية كما يظن البعض. إنها اللغة التي يترجم عبرها كلٌّ منّا فضوله تجاه الحياة. الأزواج الذين يشتركون في هذا الفضول -حتى إن اختلفت أذواقهم- يبقون أكثر ترابطًا.
لا يهم أن يكون ذوق أحدهما كلاسيكيًا والآخر تجريبيًا؛ المهم أن يذهبا معًا إلى المعرض أو الحفل، وأن يصغيا إلى بعضهما. يقول ترافيرز إن «الفضول الثقافي المشترك يحول دون احتقار أحد الطرفين لذوق الآخر». فبدل أن تُطرح الأسئلة بصيغة استنكار: «لماذا تحب هذا؟»، تصبح بصيغة اهتمام: «احكِ لي أكثر».
الاهتمام الذي لا يصدأ
في النهاية، كلّ تلك العناصر، من الضحك إلى الذوق، لا تعني شيئًا إذا غاب «الاهتمام المتبادل». الأزواج السعداء لا يعيشون على رصيد الماضي، ولا يعتبرون الشغف أمرًا مفروغًا منه. إنهم يستمرون في السؤال، في الإطراء، في اكتشاف الشخص الذي ينامون إلى جواره كل ليلة.
«الاهتمام»، يقول ترافيرز، «هو أقرب ما يكون إلى الحب في صورته الناضجة. لا ملاحقة ولا تجاهل، بل تدفق طبيعي من الفضول والعناية».
الانسجام أكثر من الحب
تُظهر دراسات متعددة أن الإحساس بالتشابه النفسي والسلوكي بين الأزواج يرتبط برضا أطول مدى من الإحساس بالانجذاب الجسدي أو الرومانسي وحده. فبحسب تحليل أجراه «معهد العلاقات الأسرية الأمريكي» عام 2024 على عينة من 1200 زوج، فإن من يصفون علاقتهم بأنها «منسجمة» يميلون إلى البقاء معًا ضعف من يصفونها بـ«العاطفية فقط».
بهذا المعنى، لا يعود السؤال «من يشبهك أكثر؟» بل من «يتناغم معك أكثر». لأن الحياة اليومية ليست مسرحًا دائمًا للعشق، بل لإدارة الوقت والمشاعر والمزاج، وهي أمور لا تصمد فيها الفوارق الصارخة طويلًا.
يقدّم ترافيرز، في ختام دراسته، ملاحظة إنسانية تبدو بسيطة لكنها جوهرية: «الاختلاف يثير الفضول، لكن التشابه يصنع الإيقاع». فكما في الموسيقى، لا يحتاج اللحن إلى نغمة واحدة متكررة، بل إلى تناغم بين النغمات المختلفة. ومع ذلك، إن لم يكن هناك إيقاع مشترك، فلن تكون هناك أغنية أصلًا.














