في لحظة كان يفترض أن تكون ملهمة، ظهرت الإعلامية المصرية مها الصغير على شاشة برنامج «معكم منى الشاذلي»، مستعرضة لوحة فنية نسبتها لنفسها، قائلة إنها ترسم منذ سنوات. كانت تتحدث عن الشغف، والتعبير، والفن كملاذ. لكنّ ما بدا لحظة اعتراف ذاتي، تحوّل إلى اتهام علني بسرقة إبداع شخص آخر.
في الطرف الآخر من العالم، كانت الفنانة الدنماركية ليزا لاش نيلسون تراقب المشهد. كانت لوحتها «صنعت لنفسي بعض الأجنحة» معروضة على الشاشة، بلا توقيع، أو ذكر، أو أي إشارة إلى صاحبتها. كتبت ليزا على «إنستجرام»: «من الرائع أن ترى عملك على التلفاز… لكن المؤلم أن تراه منسوبًا إلى شخص آخر يدّعي ملكيته». ثم أضافت: «نسخ أعمال الآخرين شيء، لكن التقاط صورة للوحة فعلية ونسبها لنفسك… هذا جديد بالنسبة لي».
وفق اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية، يُعد هذا الانتحال انتهاكًا صريحًا لحقوق الملكية الفكرية. لكن بعيدًا عن النصوص القانونية، ماذا يعني أن يدّعي أحدهم ملكية عمل فني؟ هل هو طيش، أم محاولة إثبات ذات؟ وهل هناك فرق بين من ينسخ لوحة وبين من يكذب بشأن هويته الإبداعية؟
إدارة برنامج «معكم منى الشاذلي» لم تنكر الواقعة. بل نشرت على صفحتها الرسمية إقرارًا واضحًا: «اللوحة من إبداع الفنانة الدنماركية ليزا لاش نيلسون، ونحترم المبدعين الحقيقيين». اعتراف ربما جاء متأخرًا، لكنه يلقي الضوء على مفارقة أعمق: لماذا يفعل الناس ذلك؟ لماذا ننسب لأنفسنا ما ليس لنا؟ ولماذا نكذب أصلًا؟
في دراسة أعدّتها عالمة النفس الأمريكية بيلا دي باولو، تبيّن أن الناس يكذبون في واحد من كل خمسة تفاعلات اجتماعية تستغرق عشر دقائق أو أكثر. ليس فقط الكذب الأبيض، بل الأكاذيب الموجهة لبناء صورة اجتماعية أفضل، أو تفادي الإحراج، أو حتى نيل الإعجاب.
الكذب ليس دائمًا مكرًا متعمّدًا. هو أحيانًا قناع، وأحيانًا طوق نجاة. فالرجال، بحسب دي باولو، يميلون إلى الكذب من أجل التفاخر، بينما تكذب النساء غالبًا لتجنّب إيذاء مشاعر الآخرين. في الحالة المعروضة على الشاشة، هل كانت مها الصغير تحاول الظهور بصورة الفنانة متعددة المواهب؟ وهل بدا لها أن لا أحد سيكتشف اللوحة المنقولة؟
عندما يكذب الإنسان، ينشط دماغه بطريقة معقّدة. الفص الجبهي يُعطّل الحقيقة، بينما يطلق الجهاز الحوفي إشارات القلق. في الخلفية، تعمل مناطق الذاكرة لتلفيق صور مقنعة. الكذب، باختصار، عملية مرهقة. لا عجب أن قول الحقيقة أهدأ، حتى على المستوى العصبي.
في السياق ذاته، تُظهر دراسة لموقع Zety الأمريكي أن 96% من الموظفين يعترفون بأنهم كذبوا مرة على الأقل للخروج من العمل، سواء بادعاء المرض أو «وفاة قريبة». معظمهم لا يشعر بالذنب. ربما لأننا نعيش في ثقافة تغفر الكذب الصغير، وتتغاضى عن الزيف إذا كان مغطى بلباقة أو ابتسامة.
ما حدث للإعلامية المصرية ليس حالة نادرة. كثير من المشاهير في الشرق والغرب تعرّضوا لاتهامات بنسب أعمال ليست لهم، سواء كانت لوحات فنية أو اقتباسات أدبية أو تصاميم أزياء. فالفن – باعتباره مرآة الروح – يتحول أحيانًا إلى وسيلة للتزييف، إذا ما تم التعامل معه كأداة للزينة الاجتماعية، لا كتجربة إنسانية صادقة.
لكن الفارق هنا أن الحدث خرج إلى العلن، واصطدم بجمهور ذكي وسريع الالتقاط. لم يعد الترويج الذاتي سهلًا في زمن الإنترنت. الصورة تنتقل، وتتقاطع، وتُقارن. وحتى لوحة معلّقة على حائط قد تجد طريقها إلى شاشة دنماركية غاضبة.
القصة ليست عن مها الصغير فقط، بل عن التوتر المزمن بين الحقيقة والانطباع. عن ميلنا لأن نبدو أكثر مما نحن عليه. عن الرغبة في الانتماء إلى عالم الإبداع ولو بالادّعاء. وربما أيضًا عن هشاشة بعض الهويات، التي تبحث في الفن عن طوق نجاة، لكنها تنسى أن الصدق -لا الانتحال- هو شرط الدخول الحقيقي إلى هذا العالم.
في النهاية، ليست المسألة مسألة لوحة مسروقة فقط، بل مرآة لحالة عامة من التزييف الاجتماعي، حيث يصبح الكذب أحيانًا مهارة، وأحيانًا أسلوب حياة.