في زمن تتسارع فيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتستبدل الكثير من المهام البشرية، تبدو بعض المهن وكأنها محصنة ضد هذا المدّ التكنولوجي، رغم أن المنطق البسيط يوحي بأن لا شيء يقف أمام الثورة الرقمية. فهل يعقل أن تنجو وظائف بعينها من براثن الأتمتة، فقط لأنها تعتمد على «لمسة إنسانية» أو «قرار لحظي» لا يمكن تقليده؟
يأتي هذا في سياق تحوّلات جذرية يعيشها سوق العمل العالمي، حيث تقارير متزايدة -مثل تحليل منصة «Esquimoz» – تشير إلى أن بعض الأدوار تبقى عصية على الذكاء الاصطناعي، إما بسبب تفاعلها المباشر مع الناس، أو لكونها تتطلب أحكامًا معقدة وسيناريوهات متغيرة لا يمكن لآلة محاكاتها بالكامل.
تحتل مهن الطوارئ المرتبة الأولى ضمن قائمة «الأكثر أمانًا». فالمسعفون الطبيون (EMTs) والأخصائيون الاجتماعيون في المجال الصحي يتميزون بنسبة تفاعل مع الجمهور تصل إلى 100%، بينما لا تتجاوز نسبة المخاطر الأوتوماتيكية لوظائفهم 7% و11% على التوالي.
هذا لا يعود فقط إلى المهارات التقنية، بل إلى القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية في لحظات حرجة، وفهم مشاعر الآخرين بذكاء عاطفي عميق، فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغ تطوّره، لا يزال عاجزًا عن الإحساس بآلام الناس أو قراءة صرخات القلق خلف ملامحهم.
الأدوار الإدارية، مثل مديري الموارد البشرية ومديري العمليات، لا تزال صامدة رغم كل أدوات التحليل الذكية. ويكمن السبب في أن القيادة لا تقتصر على اتخاذ قرارات منطقية فقط، بل تتطلب بناء الثقة بين فرق العمل، وصياغة استراتيجيات تتعامل مع متغيرات بشرية معقدة.
وبحسب بيانات «Esquimoz»، يتمتع مديرو الموارد البشرية بنسبة تفاعل مع الآخرين تصل إلى 83%، فيما تبلغ نسبة المخاطر الأوتوماتيكية 26% فقط، وتكشف هذه الأرقام أن «العنصر الإنساني» في الإدارة يظل صعب الاختزال إلى مجرد خوارزميات.
حتى المهن التي تبدو بعيدة عن الطابع الإنساني المباشر، مثل أعمال الصيانة أو الإشراف على مواقع البناء، تحافظ على مرونتها أمام الذكاء الاصطناعي.
يعود ذلك إلى أن بيئات العمل المتغيرة والمعقدة في هذه القطاعات لا يمكن اختزالها إلى عمليات محددة مسبقًا. الإشراف على العمال في مواقع البناء، مثلاً، يحتاج إلى قراءة الظروف الطارئة، واتخاذ قرارات في الوقت الحقيقي، وهي مهارات لم تتقنها الروبوتات بعد.
تكشف القائمة التي أعدتها «Esquimoz» عن ترتيب لافت:
هذه الأرقام تشير إلى أن التفاعل البشري والحكم الاستراتيجي يمثلان درعًا واقيًا أمام تقدم الأتمتة.
فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يواصل اقتحام مهن مثل التسويق والتحليل الرقمي وحتى الصحافة، فإن هذه البيانات تدعو للتفكير، هل ستصبح القيم الإنسانية، مثل التعاطف، والقدرة على القيادة، ومهارة التعامل مع الأزمات، هي رأس المال الجديد في عصر التقنية؟ وهل نشهد تحولاً يجعل «الذكاء العاطفي» سلاح المستقبل في مواجهة «الذكاء الاصطناعي»؟
لا يقدّم هذا التصنيف حكمًا نهائيًا، لكنه يرسم ملامح معركة غير متكافئة بين التقنية والإنسان. فبينما تنمو قدرة الآلات على الحساب والتكرار، يبقى الإنسان متفردًا بمرونته وحدسه وقوة قراراته في مواجهة المجهول.