بينما يحلّق الخفاش في عتمة الليل مطلقًا أصواتًا عالية التردد، يصغي إلى صداها ليهتدي في ظلام الغابة. هذه الموجات تتجاوز قدرة معظم الكائنات على السمع، إلا أن الفراشة الليلية الكبيرة (المعروفة بفراشة الشمع) تمتلك أذنًا خارقة، تسمح لها بالتقاط ترددات تصل إلى 300 كيلوهرتز، أي ما يفوق الحد الأقصى لسمع الإنسان بنحو 15 ضعفًا. وبمجرد أن تسمع نداء الخفاش، تدرك أن الخطر يقترب، فتناور سريعًا لتنقذ حياتها.
غالبًا ما تُذكر الخفافيش والفراشة الليلية الكبيرة ضمن قائمة الكائنات التي تتمتع بقدرات سمعية مذهلة، لكن يبقى السؤال: من هو الحيوان الذي يملك أقوى حاسة سمع في العالم؟
توضح كريستين كوبل، أستاذة فسيولوجيا جذع الدماغ والقوقعة السمعية بجامعة أولدنبورغ في ألمانيا، أن مفهوم “الأفضل” في السمع أمر نسبي لا يمكن تحديده بسهولة. فهناك عوامل متعددة تحدد قوة السمع لدى الحيوانات، مثل درجة الحساسية للأصوات، والقدرة على التمييز بين النغمات المتشابهة، وكذلك تحديد اتجاه الصوت ومصدره.
هذه المعايير المختلفة تجعل من الصعب وضع تصنيف واحد لقدرات السمع بين الكائنات، ومع ذلك، تظل هناك خصائص مميزة لبعض الحيوانات تستحق تسليط الضوء عليها.
عند الحديث عن أنظمة السمع لدى الحيوانات، ترى كريستين كوبل أن بومة الحظيرة (Tyto alba) يحتل مكانة خاصة: “لقد أجريت أبحاثي على بومة الحظيرة، ولهذا أضعه في صدارة قائمتي؛ فجهازه السمعي تطوّر بشكل كامل ليتماشى مع عاداته في الصيد الليلي، مما يمنحه قدرة مذهلة على تحديد موقع فريسته اعتمادًا على السمع فقط”.
يُعرف البوم بقدرته على الصيد في الظلام، حيث يستخدم سمعه الفائق لدعم بصره الضعيف في الإضاءة الخافتة. فهو يستطيع أن يلتقط صوت حركة فأر صغير يركض تحت طبقات من الثلج أو بين الأوراق اليابسة، ثم يحدد مكانه بدقة مذهلة وينقض عليه في لحظة خاطفة.
تتمتع البومة بقدرة استثنائية على تحديد الأصوات بفضل تكيفات خاصة في أجسامها؛ فالريش الذي يحيط بوجهها يأخذ شكل طبق، يعمل على تجميع الموجات الصوتية وتوجيهها نحو الأذنين، أما أذناها فليستا في مستوى واحد، إذ تقع إحداهما أعلى قليلًا من الأخرى، مما يجعل الصوت يصل إلى كل أذن في لحظة مختلفة ولو بشكل طفيف، هذا الفارق الزمني البسيط يمنح البوم القدرة على تحديد موقع الصوت بدقة مذهلة، حتى في أحلك ظروف الليل.
ورغم أن الخفافيش تحلّق في السماء بينما تعيش الدلافين في أعماق البحر، إلا أن بينهما سمة مدهشة مشتركة: القدرة على تحديد الموقع بالصدى، أي استخدام الصوت كوسيلة دقيقة لاكتشاف البيئة ورسم خريطتها.
تقول دارلين كيتن، الباحثة الفخرية في معهد وودز هول لعلوم المحيطات: “أُعجَب كثيرًا بآذان الدلافين والخفافيش؛ فهي لا تكتفي بالتقاط الأصوات ومعالجتها، بل تستخدمها كوسيلة لتصوير بيئاتها بشكل نشط.”
يقوم مبدأ تحديد الموقع بالصدى على إصدار أصوات خاصة ترتد عن الأجسام المحيطة، ثم الاستماع إلى صداها. بهذه الطريقة تستطيع الدلافين وبعض أنواع الخفافيش تكوين خريطة ذهنية دقيقة لمحيطها باستخدام الصوت. ورغم أن تقنية السونار البشري تعتمد على المبدأ نفسه، فإن ما تملكه هذه الكائنات من دقة وتطور يفوق بكثير ما توصّل إليه الإنسان.
وتضيف كيتن عن أبحاثها على الدلافين: “نُفاجأ في كل مرة تقريبًا بمدى التعقيد والذكاء الذي تظهره هذه الكائنات في استخدام الصوت.”
تملك الخفافيش ميزتين بارزتين تساعدانها على إتقان فن تحديد الموقع بالصدى: آذانها الخارجية الكبيرة التي تعمل كهوائيات طبيعية لالتقاط الموجات الصوتية.
وأدمغتها التي تخصص مساحات ضخمة لمعالجة هذه المعلومات، تمامًا كما يكرّس دماغ الإنسان جزءًا كبيرًا لمعالجة الرؤية.
أما الدلافين، فهي تحتاج أيضًا إلى قوة دماغية هائلة، إذ إن عصبها السمعي أثقل بمرتين أو ثلاث مرات من نظيره لدى كثير من الثدييات البرية. ومع ذلك، يختلف نظام سمعها عن الخفافيش؛ ففتحات آذانها الخارجية صغيرة جدًا ولا تؤدي دورًا رئيسيًا، بل تعتمد الدلافين على رواسب دهنية في منطقة الفك لالتقاط الموجات الصوتية التي تنتقل عبر الماء.
ولحماية نفسها من أصواتها العالية، طوّرت كل من الخفافيش والدلافين آليات دقيقة داخل آذانها تمنعها من أن تصاب بالصمم جراء ضجيج نداءاتها الخاصة.
يرى براندون ساوثهول، رئيس وكبير العلماء في شركة “ساوثهول للبيئة”، أن لقب أفضل سمع قد لا يذهب إلى الخفافيش أو الدلافين، بل إلى مجموعة غالبًا ما نغفل عنها: زعانف الأقدام، والتي تضم الفقمات وأسود البحر وظباء البحر.
يقول ساوثهول: “هذه الكائنات تقوم بما يشبه المستحيل، إذ تسمع بكفاءة سواء فوق سطح الماء أو تحته.”
فكل حيوان في الطبيعة يمتلك جهازًا سمعيًا مخصصًا للبيئة التي يعيش فيها. ولتوضيح الفكرة، تخيّل أنك غمست رأسك تحت الماء: ستبدو الأصوات مكتومة ومشوشة ويصعب تحديد مصدرها، لأن آذان الإنسان صُممت لالتقاط الموجات التي تنتقل عبر الهواء. وبالمثل، صُممت آذان الحيوانات البحرية خصيصًا لالتقاط الموجات الصوتية التي تسافر عبر الماء.
يقول ساوثهول: “إذا أخذت دلفينًا ووضعته في الهواء، فإنه يُصبح أصمًا تقريبًا وليس له اتجاه محدد”.
لأن زعانف الأقدام تصطاد في المحيط وتتزاوج وتربي صغارها على اليابسة، فإنها تحتاج إلى سمع جيد على اليابسة وفي الماء. في الواقع، قال ساوثهول إن بعض زعانف الأقدام تسمع تقريبًا مثل البوم على اليابسة، وبعضها يسمع تقريبًا مثل الدلافين تحت الماء. أثناء عمله الميداني، شاهد ساوثهول حتى الفقمات تتفاعل مع صوت تفتت الثلج على مسافة تصل إلى ميل واحد (1.6 كيلومتر).
ولكي تتمكن من السمع جيدًا على اليابسة وفي الماء، تستخدم زعانف الأقدام آلية فريدة: فهي تملأ الفراغ في آذانها الوسطى بالدم أثناء السباحة. يسمح هذا للموجات الصوتية تحت الماء بالاستمرار في الانتقال عبر سائل في الأذن الوسطى، مما يقلل من أي تشوه في الصوت. عندما تعود الفقمات إلى اليابسة، تمتلئ آذانها بالهواء مرة أخرى، مما يسمح لها بسماع الموجات الصوتية التي تنتقل عبر الهواء.