على سطحٍ صامتٍ يلفّه الغبار وتخترقه حُفر لا تنتهي، يقف القمر شاهدًا على أكثر من مجرد خطوات بشرية، فمنذ أن لامسته أول مركبة سوفيتية عام 1959، تحوّل هذا الجسد الفضي إلى متحفٍ سماوي مفتوح، تتناثر فيه آثار الإنسان كأنها رسائل من حضارةٍ تسعى إلى الخلود. لكن خلف تلك الرموز المدهشة تختبئ مفارقات تجمع بين العلم والعبث، وبين الطموح الإنساني ورغبته الدائمة في ترك أثرٍ، مهما كان شكله.
منذ أول هبوط بشري عام 1969، لم يكتفِ روّاد الفضاء بالعلماء والتجارب، بل اصطحبوا معهم شيئًا من الذات. أراد تشارلز ديوك من بعثة «أبولو 16» أن يترك عائلته هناك رمزيًا، فوضع صورةً لهم على سطح القمر وكتب خلفها «هذه عائلة رائد الفضاء ديوك من كوكب الأرض، حطّت على القمر في أبريل 1972».
اليوم، تلاشت الألوان تحت قسوة الأشعة فوق البنفسجية، وبقيت فقط الفكرة، أن الإنسان لا يذهب إلى الفضاء خالي الوفاض، بل محمّلًا بعواطفه الصغيرة التي تقاوم العدم.
لم يكن البشر وحدهم من أضاف غرابة إلى القمر. فعلى مدى قرون، روى مراقبون فلكيون قصصًا عن «وميضٍ» أو «انشقاقٍ ضوئي» يظهر فجأة على سطحه.
أطلق العلماء على تلك الظواهر اسم «الظواهر القمرية العابرة»، وهي ومضات حقيقية توثّقها اليوم كاميرات وكالة الفضاء الأوروبية، وتحدث عندما ترتطم نيازك صغيرة بالقشرة القمرية.
وفي منتصف القرن العشرين، التقط الفلكي دينسمور ألتر صورًا لما بدا كـ«ضباب» يغشى فوهة «ألفونسوس»، بينما ظنّ آخرون أنهم شهدوا ثورانًا بركانيًا. لكن التحليل اللاحق أثبت أن ما حدث لم يكن إلا تنفّسًا مؤقتًا من الغازات الكامنة في أعماق القمر، كأنّ الصخرة الصامتة تُذكّرنا بأنها ليست ميّتة تمامًا.
في مشهدٍ أقرب إلى الشعر منه إلى الفيزياء، أسقط ديف سكوت، قائد «أبولو 15»، مطرقة وريشة صقر في الوقت نفسه على سطح القمر. كانت التجربة تحيةً إلى جاليليو وإثباتًا أن الأجسام تسقط بالسرعة نفسها في غياب الهواء. وحين استقرت الريشة والمطرقة معًا في لحظة واحدة، بدا الأمر كأنّ القمر نفسه يصفّق للمنطق العلمي، وللدهشة التي لا تنتهي كلما لمس الإنسان حدود المجهول.
حجر من الأرض… في المنفى القمري
لم يذهب سكوت وزميله جيم إروين إلى القمر خاليي الأيدي، فقد حمل الأخير قطعة صغيرة من الحمم البركانية مصدرها ولاية أوريجون الأمريكية، تبرّع بها صديقٌ له ليتركها هناك كتذكار. لم يكن العمل رسميًا، لكنه كان دافئًا، قطعة من الأرض تعود إلى أصلها، وإن في مكانٍ بعيدٍ لا يعرف المطر ولا العشب.
القمر الذي نراه رماديًا من الأرض يخفي ألوانًا لا تظهر إلا بعدسة دقيقة. فقد لاحظت بعثة «أبولو 15» فوهةً بدت «زرقاء» سُمّيت لاحقًا «إينا». لم يكن اللون حقيقيًا، بل انعكاسًا لمعادنه الغنية بالتيتانيوم. ومن هناك، أدرك العلماء أن القمر ليس لوحةً رمادية كما يظن الناس، بل فسيفساء من درجات الضوء والمعادن، تتغير بتغير زوايا النظر، كأنّ الجمال فيه يختبئ عن العين المجردة.
في عام 2019، اكتشفت وكالة «ناسا» كتلةً معدنية هائلة مدفونة تحت أكبر حُفرة على القمر، تُعرف باسم «حوض القطب الجنوبي – أيتكين». تمتد هذه الكتلة أكثر من 2500 كيلومتر ويُعتقد أنها بقايا نواة كويكب اصطدم بالقمر قبل مليارات السنين. يزن هذا «الضيف المعدني» أكثر من كوينتيليون (مليون تريليون طن) طن، ويذكّرنا بأن ما نراه من السطح ليس إلا نصف الحكاية.
ليس كل ما تركه الإنسان هناك يُثير الفخر. فبين أكثر من 200 طن من المخلفات توجد 96 حقيبة نفايات بشرية، تحتوي على بولٍ وبرازٍ وقيءٍ من روّاد «أبولو». المفارقة أن هذا القرف العلمي قد يصبح يومًا مادة بحثٍ ثمينة، إذ تسعى «ناسا» إلى دراسة إمكانية نجاة البكتيريا القديمة وسط الإشعاع والبرودة، لتستفيد من الدرس في رحلات المريخ القادمة. القمر، بهذا المعنى، صار مختبرًا لتاريخنا البيولوجي كما هو لمجدنا التقني.
حين تحطّمت مركبة «Lunar Prospector» عام 1999، كانت تحمل رماد العالم يوجين شومايكر، مكتشف المذنّب الشهير الذي رفضته برامج التدريب لضعف قلبه. هكذا صار شومايكر أول إنسان يُدفن في القمر، حيث كان يحلم أن يطأه حيًّا.
لكن أكثر ما يثير الدهشة ربما هو العمل الفني المهرّب الذي زُعم أن مهندسًا دسّه في مركبة «أبولو 12» عام 1969: قطعة سيراميك صغيرة من مشروع «متحف القمر» تحمل رسومات ستة فنانين بينهم آندي وارهول، الذي ترك بصمة اعتبرها البعض «إشارة فنية» وآخرون رأوها «مزحة جريئة». الفن، كما يبدو، سبق الأخلاق حتى في الفضاء.