بعيدًا عن التنجيم.. كيف أصبحت “الطوالع السنوية “بوصلة الفلاح ومرشد لتحديد مواقيت الزراعة في المملكة؟
في عمق التراث الزراعي للمملكة العربية السعودية، يكمن نظام فلكي عريق يُعرف باسم الطوالع السنوية، وهو بمثابة تقويم كوني يربط بين حركة النجوم في السماء ودورة الحياة على الأرض. هذا النظام المعرفي ليس مجرد رصد فلكي، بل هو دليل عملي متكامل ورثه الأجداد، يحدد من خلاله المزارعون مواقيت الزراعة والحصاد والتعامل مع الأرض، معتمدين على دورة ثابتة من المنازل النجمية التي تظهر تباعًا على مدار العام، حيث تستمر كل مرحلة منها لمدة 13 يومًا.
تُعتبر الطوالع السنوية مرشدًا دقيقًا للتحولات المناخية الجذرية التي تشهدها فصول السنة. فعندما يبزغ نجم “الإكليل” في السماء بين 7 و19 ديسمبر، يعلم المزارعون أنهم على أعتاب مربعانية الشتاء القارسة. هذه الفترة تشهد هبوب رياح باردة، وتساقط أوراق الأشجار، وتزايد فرص هطول الأمطار، وهي اللحظة المثالية لبدء زراعة القمح في شمال المملكة.
وعلى النقيض، عندما يظهر طالع “الجبهة” في أوائل سبتمبر، يكون ذلك إيذانًا بقدوم الخريف، حيث يبرد الليل وتعتدل الأجواء نهارًا، وهو الوقت المناسب لحصاد التمور وزراعة الخضراوات. ويمكّن فهم هذه الدورة المزارعين من التناغم مع الطبيعة، حيث إن لكل فترة من الطوالع السنوية مهامها الزراعية الخاصة، من غرس فسائل النخيل إلى شتل الموالح.
لا تقتصر دلالات الطوالع السنوية على المناخ والزراعة فحسب، بل تمتد لتشمل دورة الحياة والموت في الطبيعة الصحراوية. فمع ظهور طالع “سعد السعود” في شهر مارس، تدب الحياة في الأرض من جديد؛ إذ تخضر الصحراء، وتورق الأشجار، ويزداد ظهور فطر الكمأة (الفقع) بكثرة. وفي المقابل، فإن ظهور نجم “الثريا” في أوائل يونيو هو علامة على بدء قسوة الصيف، حيث يجف العشب، وتغور المياه في الآبار، وتختفي حشرات الربيع. وتصل هذه القسوة إلى ذروتها في طالع “جمرة القيظ” خلال شهر يوليو، الذي يشهد أشد درجات الحرارة والرياح السامة. إن هذه الدورة الدقيقة التي ترسمها الطوالع السنوية هي التي تحدد إيقاع الحياة في البيئة المحيطة.
تُعد هجرة الطيور الموسمية إحدى الظواهر الطبيعية المرتبطة ارتباطاً وثيقًا بظهور الطوالع السنوية. فالمزارع الخبير لا ينظر إلى السماء لرؤية النجوم فقط، بل يراقب أيضًا حركة الطيور التي تأتي كرسل معلنةً عن تغير الفصول. فمع بداية الشتاء وظهور طالع “الإكليل”، تبدأ أسراب طيور القطا والكدري بالهجرة. وفي الربيع، وتحديدًا في طالع “المؤخر” خلال شهر أبريل، تكثر هجرة طيور القماري. إن هذا التزامن الدقيق بين حركة النجوم وهجرة الطيور يبرهن على أن منظومة الطوالع السنوية هي لغة الطبيعة التي فهمها الأجداد وأتقنوها.