في محاولة لفهم اللغز الذي حيّر العلماء لعقود، عن الأسباب الكامنة وراء اختفاء بعض الكائنات الحية وعدم وجود حفريات لها في حين تبقى كائنات أخرى محفوظة بشكل مذهل، كشفت دراسة حديثة من جامعة لوزان السويسرية، نُشرت في مجلة Nature Communications، عن تفسير هذا التفاوت، بل قدّمت أيضًا رؤى جديدة حول العمليات الكيميائية التي تتحكم في مصير الكائنات بعد موتها، وتحوّل بعضها إلى أحافير استثنائية.
بحسب نتائج الدراسة، فإن التركيب العضوي وحجم الحيوان يلعبان دورًا رئيسيًا في احتمالية تحوله إلى أحفورة، فالحيوانات الأكبر حجمًا، والأغنى بالبروتين، تخلق بيئة فقيرة بالأكسجين بعد موتها، ما يُعرف بالظروف “الاختزالية”، والتي تُبطئ من عملية التحلل وتُسهم في تثبيت الأنسجة وتحولها لاحقًا إلى أحجار حفرية.
تشير نورا كورتيسي، المؤلفة الرئيسية للدراسة وطالبة الدكتوراه في جامعة لوزان، إلى أن هذا التأثير الكيميائي الداخلي للجسم نفسه قد يكون هو الفارق بين البقاء والانقراض دون أثر.
وأضاف فريد صالح، زميل المؤسسة الوطنية السويسرية للعلوم، أن الكائنات ذات الكتلة الحيوية الكبيرة تُحفّز التمعدن بسرعة، مما يحمي أنسجتها من التدهور الكامل.
للوصول إلى هذه النتائج، أجرى فريق البحث تجارب مختبرية متقدمة على حيوانات معاصرة تُشبه إلى حد كبير كائنات ما قبل التاريخ، مثل الروبيان ونجم البحر والقواقع، وتمت مراقبة عملية التحلل باستخدام أجهزة استشعار دقيقة تقيس مستويات الأكسجين وتغيرات البيئة المحيطة بالجثث المتحللة، هذه المحاكاة ساعدت الباحثين على فهم كيف تختلف نتائج التحلل باختلاف بنية الجسم.
واكتشف الباحثون أن الكائنات الصغيرة أو ذات المحتوى البروتيني القليل تتحلل بسرعة ولا تُوفر بيئة مناسبة لتحجر أنسجتها، مما يعني أنها قد تختفي من السجل الأحفوري كليًا، في حين أن المفصليات – مثل الروبيان – لديها فرصة أكبر للبقاء والظهور في الرواسب القديمة.
على الرغم من أن معظم الأحافير التي نعرفها تتكوّن من العظام أو الأصداف الصلبة، فإن بعض الاكتشافات النادرة كشفت عن أنسجة رخوة مثل العضلات والدماغ وحتى الأمعاء، لكن لماذا تبقى هذه الحفريات الرخوة نادرة جدًا؟، وفي هذا الصدد أوضحت كورتيسي أن الظروف المناسبة لتحجر هذه الأنسجة – مثل انخفاض مستويات الأكسجين – نادرة، ولا تتحقق إلا في حالات خاصة جدًا.
هذا يفسر هيمنة بعض الكائنات مثل المفصليات في السجل الأحفوري للعصرين الكامبري والأوردوفيشي، حيث توفر أجسامها البيئة المثالية لهذا النوع من الحفظ، على عكس الديدان المسطحة الصغيرة التي تتحلل بسرعة وتختفي دون أثر.
على الرغم من تركيز الدراسة على الخصائص الداخلية للكائنات، فإن الباحثين أشاروا إلى أن العوامل البيئية مثل درجة الحرارة والملوحة تؤثر أيضًا في عملية التحجر، فالمناخ البارد والمياه المالحة يمكن أن يُبطئا عملية التحلل، مما يُعزز فرص تكوّن الأحافير.
ومع ذلك، شددت الدراسة على أن هذه العوامل لا تزال بحاجة إلى مزيد من البحث، إذ يصعب محاكاتها بدقة في المختبر، وقالت كورتيسي: “ما زلنا بعيدين عن فهم كامل لكيفية تأثير كل الظروف البيئية والمناخية على حفظ الكائنات الحية بعد موتها.”
الدراسة تُعيد النظر في كيفية تفسير الفجوات في السجل الأحفوري، مشيرة إلى أن غياب بعض الكائنات لا يعني بالضرورة أنها لم تكن موجودة، بل ربما لم تُحفظ بسبب طبيعة أجسادها، هذا يفتح الباب أمام احتمالات أن الحياة القديمة كانت أكثر تنوعًا وتعقيدًا مما نعتقد، لكننا ببساطة لا نملك الوسائل لرؤيتها كاملة.
أثبتت الدراسة أن التحجر ليس مجرد مصادفة جيولوجية، بل هو نتاج تفاعل معقد بين الكيمياء الحيوية، والبيئة، والبنية الجسدية للكائنات، وما نراه اليوم من أحافير هو مجرد جزء صغير من لوحة ضخمة ما زالت أغلب تفاصيلها مخفية.
يمكنك أن تقرأ أيضًا:
10 أسرار مذهلة عن كوكب الأرض.. تبدو وكأنها خيال علمي!
بعد 53 عامًا من فشل مهمتها.. مركبة كوزموس 482 الفضائية تعود إلى الأرض