تصنف الاغتيالات في السياق السياسي والبحثي كأحداث محورية ومستمرة في المشهد العالمي، حيث يُقتل زعيم وطني واحد تقريبًا في كل عامين منذ عام 1950.
وتثير هذه الممارسة جدلًا تاريخيًا عميقًا حول ما إذا كان موت القائد يغير مسار الأحداث، أم أن القوى الهيكلية الكبرى هي المحرك الحقيقي للتاريخ.
وبينما ادعى أحد رؤساء وزراء بريطانيا التاريخيين، بنيامين دزرائيلي، قديمًا أن القتل السياسي لم يغير تاريخ العالم أبدًا، تثبت الدراسات الإحصائية الحديثة أن "عنصر الصدفة" الكامن في نجاح أو فشل هذه العمليات يمكن أن يترك أثرًا بالغًا على المؤسسات الوطنية ومسارات الحروب.
وتثبت الحوادث التاريخية أن الفارق بين الرصاصة التي تصيب والطلقة التي تخطئ قد يكون هو الفارق بين استمرار الدكتاتورية أو ولادة الديمقراطية.
كيف غيرت الاغتيالات التاريخ السياسي؟
يستند التحليل العلمي لجدوى الاغتيالات إلى فكرة "التجربة الطبيعية"، حيث قام الباحثان بنجامين جونز وبنجامين أولكن بدراسة 298 محاولة استهدفت زعماء العالم منذ عام 1875.
وتعتمد هذه المنهجية على اعتبار محاولات الفشل "مجموعة ضابطة" للمحاولات الناجحة، خاصة في الحالات التي حسمتها الصدفة البحتة، مثل تعطل السلاح أو تغير أحوال الطقس التي أنقذت هتلر من قنبلة موقوتة في ميونيخ عام 1939.
وتكشف النتائج أن نجاح العملية يغير بشكل جوهري من بنية المؤسسات السياسية، مما يدحض فرضية أن القادة مجرد عرائس في يد الظروف التاريخية، ويؤكد أن الفرد يمتلك تأثيرًا مستقلًا وحاسمًا خاصة في الأنظمة الأوتوقراطية.
يذكر أن مصطلح الأوتوقراطية يعني الأوتوقراطية نظام حكم يتركز فيه السلطة في يد فرد واحد أو مجموعة صغيرة يمارسها بشكل مطلق ودون مساءلة، وتعتمد على السيطرة المركزية وتوجيه الأفراد، وتتميز بالسرعة في اتخاذ القرارات ولكنها قد تؤدي لقمع الحريات.
وتشير البيانات إلى أن نجاح الاغتيالات التي تستهدف الحكام المستبدين يؤدي إلى زيادة احتمالية انتقال الدولة نحو الديمقراطية بنسبة تصل إلى 13% مقارنة بالمحاولات الفاشلة.
كما يرفع نجاح العملية من احتمالية أن تكون انتقالات السلطة المستقبلية في تلك الدول "قانونية ومؤسسية" بنسبة 19%.
وفي المقابل، تظهر النظم الديمقراطية حصانة لافتة؛ فنجاح تصفية زعيم ديمقراطي لا يغير من طبيعة المؤسسات أو القواعد السياسية، مما يعزز فرضية أن القوة تكمن في متانة البناء المؤسسي لا في شخص الزعيم في الدول المنفتحة.
الاغتيالات كأسلوب لإنهاء الحروب
تؤكد الدراسة أن الاغتيالات تلعب دورًا ملموسًا في تغيير شدة النزاعات القائمة، حيث يعمل موت القائد كصدمة لاستراتيجية الحرب المتبعة.
وتكشف الإحصاءات أن نجاح تصفية القائد في ظل الحروب "عالية الشدة" أي التي تخلف أكثر من ألف قتيل يميل إلى تعجيل نهاية الصراع وتحقيق السلام بنسبة تصل إلى 25% مقارنة بالمحاولات التي تفشل.
ويعود ذلك غالبًا إلى أن القادة الجدد قد يمتلكون حوافز مختلفة عن أسلافهم، أو قد لا يشعرون بالارتباط الشخصي بالقرارات التي أدت لنشوب الحرب، مما يسهل عمليات التفاوض والانسحاب.
وعلى النقيض من ذلك، تظهر الاغتيالات أثرًا سلبيًا في النزاعات الصغيرة أو متوسطة الشدة؛ ففي هذه الحالات، قد يؤدي نجاح العملية إلى تصعيد النزاع وزيادة حدته بنسبة تصل إلى 33%.
ويوضح هذا التباين أن أثر غياب القائد يعتمد على حالة الصراع عند وقوع المحاولة، حيث يمكن أن يكون محفزًا للسلام في الحروب الكبرى، أو سببًا في الفوضى والتصعيد في النزاعات المحدودة.
وتدعم نتائج هذه الدراسة النظريات التي تؤكد أن حوافز القادة تختلف أحيانًا عن مصلحة السكان العامة، مما يجعل استبدالهم وسيلة لتغيير مسار الحرب.
فخ نجاح الاغتيالات وتداعيات الفشل على السلطة
تتسم الاغتيالات بكونها سلاحًا ذا حدين، حيث أن محاولة الفشل بحد ذاتها تترك آثارًا قد تكون عكسية تماماً للأهداف المرجوة.
وتكشف الدراسة أن المحاولات الفاشلة لتصفية الحكام المستبدين قد تؤدي إلى تشديد قبضتهم الأمنية وتقليل فرص التحول الديمقراطي في المدى القريب.
وبما أن 75% من جميع محاولات القتل السياسي تنتهي بالفشل، فإن النتيجة الإجمالية المتوقعة لهذه العمليات تكون متواضعة أو محايدة في المتوسط، لأن أثر النجاح الإيجابي قد يقابله قمع متزايد في حالات الفشل المتكررة.
وبالإضافة إلى ذلك، تبرز الدراسة أن وتيرة الاغتيالات ترتبط بحجم السكان؛ فكلما كان عدد سكان الدولة أكبر، زاد احتمال تعرض القائد لمحاولات قتل، حيث يرتفع عدد "المغتالين المحتملين" في مقابل وجود رأس واحدة للسلطة، فمضاعفة عدد السكان تزيد من احتمالية وقوع المحاولة بنسبة 0.35% سنويًا، مما يفسر استهداف قادة الدول الكبرى بانتظام.
ويفرض هذا التهديد المستمر على الأنظمة تكاليف أمنية وسياسية باهظة، ويجعل من فعل القتل السياسي مخاطرة غير محسومة النتائج من المنظور الاستراتيجي المسبق.
التحولات التقنية وأثرها على دقة النتائج
تعتمد جدوى الاغتيالات تاريخيًا على نوع السلاح المستخدم، حيث تختلف معدلات القتل وعدد الضحايا الجانبيين بشكل كبير بين وسيلة وأخرى.
وتظهر البيانات أن "المسدسات والبنادق" هي الوسيلة الأكثر شيوعًا بنسبة 55%، وتمتلك معدل نجاح يصل إلى 30%.
وفي المقابل، تعد المتفجرات والقنابل أقل الوسائل فعالية في تصفية الزعماء، حيث تنجح في 7% فقط من الحالات التي انفجرت فيها فعليًا، لكنها تخلف أكبر قدر من القتلى والجرحى بين المارة بمتوسط يفوق هجمات الأسلحة النارية بثمانية أضعاف.
ويشير هذا التباين أن التوجه الحديث نحو دمج التقنية في العمليات يهدف لزيادة "دقة الإصابة" وتقليل الخسائر العشوائية، فالمتفجرات رغم فشلها التاريخي، ازدادت وتيرة استخدامها بمرور الوقت لقدرتها على التنفيذ عن بعد، مما يقلل من مخاطر القبض على المنفذين.
ويمهد هذا التحول الطريق لفهم لماذا تتبنى الدول سياسات استهداف الرؤوس بالمسيرات، فهي تسعى لرفع نسبة "النجاح" التي كانت تخذلها القنابل التقليدية، وفي الوقت نفسه استغلال القوة الاستراتيجية لتغيير النظم أو إنهاء الحروب التي أثبتتها الوقائع الإحصائية.
هل الرصاصة محرك كاف للتغيير؟
يثبت البحث العلمي أن الاغتيالات ليست مجرد أحداث درامية معزولة، بل هي عوامل تغيير حقيقية تؤثر في المؤسسات والحروب.
ويعد نجاح تصفية القادة في الأنظمة الفردية محركًا قويًا للديمقراطية، بينما يظل أثرها محدودًا في الدول المؤسسية.
ومع ذلك، تظل هذه الممارسة مرتبطة بعنصر "الحظ" الذي قد يقلب الطاولة على المخططين؛ فالفشل قد يرسخ الدكتاتورية بينما النجاح قد ينهي حربًا.
وكما تظهر الأرقام، فإن التاريخ، يمكن أن يتغير بمسار رصاصة واحدة، مما يجعل من حياة الزعماء حجر زاوية في استقرار العالم أو اضطرابه.














