في مساء يوم الجمعة، تلقّى البيت الأبيض ما اعتُبر تطورًا مفاجئًا في مسار الحرب على غزة، وهو أن حركة حماس أرسلت أخيرًا ردّها على المبادرة الأميركية التي طرحها الرئيس دونالد ترامب لإنهاء القتال. وبعد انتظار دام قرابة أسبوع، سارع فريق ترامب إلى إعلان الخبر على المنصات الرسمية، متعاملين معه كما لو كان انتصارًا دبلوماسيًا مبكرًا. بل إن أحد الحسابات نشر بيان الحركة من دون تدقيق، منسوبًا خطأً إلى الرئيس نفسه.
ورغم أن رد حماس لم يتضمن موافقة صريحة على جميع بنود الخطة العشرين، ولا سيما تلك المتعلقة بنزع سلاحها أو إقصائها من إدارة غزة المستقبلية، فإن ترامب قرر أن يرى في الرد فرصة لا تُفوّت. كان مقتنعًا بأن مجرد إبداء الحركة استعدادًا لإطلاق جميع الرهائن المتبقين منذ هجمات أكتوبر 2023، يشكل اختراقًا سياسيًا كبيرًا، يكفي للمضي نحو “السلام التاريخي” الذي طالما تحدث عنه.
وبعد أقل من ساعة على نشر رد حماس، كتب ترامب على موقعه “تروث سوشيال”: “يبدو أن حماس مستعدة لسلام دائم. على إسرائيل أن توقف القصف فورًا كي نؤمن الإفراج عن الرهائن بأمان وسرعة”. وبهذه العبارة، تجاوز ترامب الموقف الإسرائيلي الرسمي، وتصرّف كما لو أن الصفقة أُنجزت. هذا التحرك أربك الحكومة الإسرائيلية، وخصوصًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي كان لا يزال يدرس تفاصيل المقترح الأميركي الذي وافق عليه مبدئيًا قبل أيام فقط تحت ضغط مباشر من ترامب وفريقه.
ورد مكتب نتنياهو ببيان مقتضب في الساعات الأولى من السبت، معلنًا استعداد إسرائيل لتنفيذ “المرحلة الأولى” من خطة ترامب، ومؤكدًا استمرار التعاون مع واشنطن لإنهاء الحرب ضمن المبادئ التي وضعتها إسرائيل. لكن غياب أي إشارة إلى وقف العمليات العسكرية أو جدول زمني لإطلاق الرهائن أظهر حجم الحرج داخل الحكومة الإسرائيلية.
في المقابل، استغل ترامب اللحظة لإبراز نفسه كصانع سلام عالمي، فنشر مقطع فيديو واصفًا اليوم بأنه “تاريخي وغير مسبوق”، مؤكدًا أن العالم أصبح أقرب من أي وقت مضى إلى رؤية “شرق أوسط يسوده السلام”.
رغم هذا التفاؤل العلني، لم يُعرف ما إذا كانت هناك أي محادثة مباشرة جرت بين ترامب ونتنياهو في تلك الساعات، بينما بدا لافتًا أن الرئيس الأميركي شكر في بيانه المرئي قادة قطر وتركيا والسعودية ومصر والأردن، دون أن يذكر نتنياهو بالاسم. وكانت الرسالة واضحة وهي أن ترامب يتصرف بوصفه صاحب القرار النهائي، وليس الشريك الداعم.
ومثّل التحوّل المفاجئ في لهجة ترامب نقطة توتر جديدة مع تل أبيب. فبعد أن هدد حماس قبل أيام بأنها ستواجه “جحيمًا” إن رفضت خطته، وجد نفسه الآن يطالب إسرائيل بوقف القصف فورًا. وقال أحد المسؤولين الإسرائيليين لشبكة CNN إن هذه الدعوة فاجأت نتنياهو مرتين، الأولى مرة بسبب توقيتها، ومرة لأنها صدرت علنًا، ما أجبر الجيش الإسرائيلي على تعليق عملياته المكثفة مؤقتًا في قطاع غزة.
وفي حين امتنعت الحكومة والجيش عن التعليق على مطلب ترامب، اكتفى مصدر رسمي بالقول إن إسرائيل شكلت فريقًا تفاوضيًا جديدًا لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار. وفي واشنطن، أكّد مسؤولان أميركيان أن المبعوثين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر سيزوران القاهرة قريبًا لبحث تفاصيل الاتفاق المتعلقة بالإفراج عن الرهائن وترتيبات المرحلة اللاحقة.
لكن حماس لم تكسب تأييدًا واسعًا في واشنطن؛ فحتى بين أنصار ترامب، كان رد الحركة موضع تشكيك. السيناتور ليندسي غراهام وصفه على منصة X بأنه “نعم مشروطة” تُخفي رفضًا فعليًا، مشيرًا إلى أن الحركة لم تُبدِ استعدادًا حقيقيًا لنزع سلاحها أو التخلي عن السيطرة على غزة.أما ترامب، فبقي متمسكًا بتفاؤله، وقال في كلمة مسجلة من المكتب البيضاوي: “نحتاج فقط إلى تحويل ما تم التوصل إليه إلى اتفاق عملي مكتمل.” وأقر بأن “الطريق ما زال طويلًا، لكن المؤشرات مشجعة.”
كان ترامب يترقب رد حماس منذ بداية الأسبوع، وتحدث شخصيًا مع أمير قطر للاستفسار عن تقدم الوساطة، ليُبلّغ بأن الانقسامات داخل قيادة حماس وصعوبة الاتصال بجناحها العسكري في غزة أبطأت صدور القرار. ومع مرور الأيام، بدأ صبره ينفد، فأصدر إنذارًا أخيرًا للحركة مساء الأحد، ملوّحًا بعواقب قاسية في حال تجاهلت مبادرته.
لكن ما إن وصل الرد، حتى اختار ترامب أن يراه خطوة بنّاءة بدلًا من رفض مبطّن. هذا القرار قلب المعادلة السياسية: فنتنياهو الذي كان يعوّل على موقف أميركي أكثر تشددًا، وجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه، إما أن يتجاوب مع ترامب ويبدو وكأنه خضع له، أو أن يعترض ويخاطر بخسارة أهم حليف له على الساحة الدولية. ولم يكن الخلاف بين الرجلين جديدًا، لكنه تعمّق مؤخرًا منذ عودة ترامب إلى الرئاسة مطلع العام. فالاتصالات بينهما اتسمت بالتوتر، خاصة حول توسع الحرب واحتمال امتدادها إلى جبهات أخرى، وهو ما رآه ترامب خطرًا على صورته كمرشح “صانع للسلام” في الداخل الأميركي.
كما أن قطاعات من قاعدة ترامب الانتخابية بدأت تُعبّر علنًا عن رفضها للحرب المستمرة، ووصفت شخصيات جمهورية بارزة مثل مارجوري تايلور غرين العمليات الإسرائيلية في غزة بأنها “إبادة جماعية”. وجاءت الضربات الإسرائيلية في قطر ضد قادة حماس لتصب الزيت على النار، إذ اعتبرها ترامب عملاً متهورًا يضر بالجهود الدبلوماسية، وانتقد تل أبيب علنًا لعدم التنسيق مع واشنطن قبل تنفيذها. وأثارت تلك الغارات موجة غضب عربية دفعت فريق ترامب إلى تسريع إعداد خطته الشاملة لوقف إطلاق النار.
وفي اجتماعات نيويورك الأخيرة، تولى ويتكوف وكوشنر مهمة إقناع نتنياهو بالخطة الجديدة، محذرَين من أن دعم ترامب غير مشروط لإسرائيل لن يستمر إذا فوّتت “الفرصة الأخيرة” للتسوية السياسية. وبعد مفاوضات مطوّلة، وافق نتنياهو بصعوبة، شريطة إدخال تعديلات على بعض البنود. لكن بمجرد نشر البيت الأبيض النص الرسمي للمبادرة، بدت اللعبة السياسية قد تجاوزت نتنياهو. فخلال اجتماعهما في المكتب البيضاوي، أجرى الأخير اتصالًا برئيس الوزراء القطري ليعتذر عن الغارات الأخيرة، خطوة اعتبرها ترامب إشارة ضرورية لإعادة بناء الثقة واستمرار الوساطة القطرية مع حماس.
وهكذا، بينما حاول ترامب أن يُظهر نفسه في صورة مهندس السلام، وجد نتنياهو نفسه محاصرًا بين التزاماته العسكرية ومطالبه السياسية، في مشهد يعكس إلى أي مدى يمكن للدبلوماسية الأميركية، حين تُدار على نحو أحادي ومفاجئ، أن تعيد رسم موازين القوة حتى بين الحلفاء الأقربين.أ
اقرأ أيضًا:
حماس توافق على مقترح الإفراج عن الأسرى وفق خطة ترامب
ترامب يحدد موعد المهلة الأخيرة لحماس للرد على خطته
إسرائيل تعترض آخر سفينة في أسطول الحرية