خلال الأشهر الأخيرة، أصبحت مشاهد الاغتيالات ومحاولات القتل حدثًا متكررًا في الساحة الأمريكية. فقبل أكثر من عام، نجا الرئيس دونالد ترامب من محاولة اغتيال، بينما استُهدف نواب من ولاية مينيسوتا وأفراد من عائلاتهم، كما اغتيل الرئيس التنفيذي لشركة “يونايتد هيلث”. وأخيرًا جاء مقتل الناشط المحافظ تشارلي كيرك، أحد أبرز حلفاء ترامب، بالرصاص أثناء فعالية عامة في جامعة وادي يوتا، أمام آلاف الحضور المذهولين.
وما يثير القلق أن هذه الاعتداءات لا ترتبط بتيار سياسي بعينه، ولا تقتصر على أماكن محددة؛ بل تطال شخصيات من مختلف الأطياف الحزبية، في ولايات متباعدة، سواء داخل منازلهم أو في أماكن عامة. وكان اغتيال كيرك بمثابة صدمة مضاعفة، ليس فقط لأنه شخصية مؤثرة، شابة وذات حضور شعبي، بل لأنه قُتل علنًا أمام حشد كبير، ما دفع الأمريكيين للقلق من تكرار هذه الاغتيالات والاتهامات المتبادلة بلا نهاية.
ولفهم أعمق لهذه الظاهرة، وما إذا كان يمكن وقفها قبل أن تستفحل، استطلعت مجلة بوليتيكو آراء مجموعة من الباحثين في العنف السياسي داخل الولايات المتحدة وخارجها. وهنا أبرز ما طرحوه:
يشير شون ويستوود من كلية دارتموث إلى أن مقتل كيرك كشف عن خلل في سلوك النخب السياسية، ففي حين وحّدت محاولة اغتيال ترامب عام 2024 الخطاب العام ودفعت القيادات لإدانة العنف بشكل مشترك، جاء رد الفعل هذه المرة معاكسًا. السياسيون لجأوا إلى تبادل الاتهامات وتحويل المأساة إلى مادة للصراع الحزبي، بدلًا من لحظة تضامن.
ويضيف أن العنف السياسي لا يحظى بدعم شعبي واسع؛ إذ لا تتجاوز نسبة المؤيدين للقتل السياسي 2%. لكن الخطورة تكمن في تصورات مغلوطة، إذ إن كثير من الأمريكيين يعتقدون أن ثلث خصومهم السياسيين على الأقل يبررون العنف، ما يخلق إحساسًا بوجود “عدو قاتل” ضخم، بينما الواقع مختلف. وهذه الصورة المضللة هي ما يغذي شعور الخوف، ويدفع بعض الأفراد إلى تنفيذ أعمال عنف متفرقة.
ترى باربرا والتر من جامعة كاليفورنيا، أن العنف السياسي ينشأ عادةً حين تتراجع الديمقراطية، وحين تنقسم المجتمعات على أسس هوية، وحين يشرعن السياسيون العنف أو يغضّوا الطرف عنه، إضافة إلى سهولة الوصول إلى السلاح. وتحقق الولايات المتحدة هذه الشروط الأربعة مجتمعة، وتزداد حدتها مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
ورغم سوداوية المشهد، تلفت والتر إلى أن نقطة الضغط الأبرز تكمن في العالم الرقمي؛ فالكثير من المنفذين أفراد جرى استقطابهم عبر الإنترنت. وتشدد على أن إخضاع شركات التقنية للمساءلة عن تضخيم خطاب الكراهية والمؤامرات قد يكون إحدى أدوات كبح هذا المد.
يؤكد جويل بوشر من جامعة كوفنتري أن اغتيال كيرك دليل إضافي على تراجع الضوابط التي كانت تحدّ من العنف السياسي. ويبرز الخطر في أن يتحول الحدث إلى مادة للاستغلال الحزبي، بدلًا من أن يكون دافعًا للتكاتف الوطني. وهو يرى أن إعادة بناء معايير رافضة للعنف، وإدانته بشكل صريح من جميع الأطراف، شرط أساسي لتفكيك دوامة التصعيد.
أما كليوناد رالي، مدير مؤسسة ACLED، فيعتبر أن أخطر ما يميز الواقع الأمريكي هو أن العنف ليس نتاج تنظيمات متماسكة، بل أعمال فردية غير مرتبطة بأجندة واضحة. وأشار إلى أن الجماعات المتطرفة موجودة، لكنها مفككة وضعيفة، فيما تظل الحوادث الأعنف من تنفيذ أشخاص معزولين يعانون أزمات نفسية أو فكرية، مستفيدين من سهولة اقتناء السلاح. ويرى أن مواجهة هذا النوع من التهديدات تحتاج مزيجًا من تشديد الضبط على الأسلحة، وتعزيز الصحة النفسية، وتطوير أدوات الاستباق الأمني، إلى جانب مراقبة الخطاب المتطرف على الإنترنت.
حذرت إيريكا فرانز من جامعة ولاية ميشيغان من أن اغتيال كيرك يندرج ضمن نمط بدأ منذ اقتحام الكابيتول عام 2021 وهو “العنف يولّد مزيدًا من العنف” وتفكيك هذه الحلقة يتطلب إعادة ترسيخ قيم الديمقراطية، وكبح النزعة إلى شخصنة الأحزاب حول زعماء بعينهم، وهو ما يجعل مؤيديهم أكثر تقبلًا لاستخدام العنف.
بدوره، أشارت سولفيج هيلسوند من جامعة أوسلو إلى أن استمرار العنف يرتبط بشعور المواطنين بانسداد الأفق السياسي. عندما يعتقد الناس أن أصواتهم لا تُحدث فرقًا، أو أن المؤسسات لا تستجيب لهم، يزداد احتمال تبرير العنف. مؤكدة أن الحل يكمن في استعادة الثقة بفاعلية المؤسسات، وضمان أن قنوات المشاركة السلمية – من الانتخابات إلى العمل الحزبي – تبقى مجدية ومفتوحة.
من جدانبه، قال شانون هيلر من جامعة برينستون إن العنف لم يعد مجرد تهديد محتمل، بل أصبح واقعًا ملموسًا يتجلى في تهديدات واعتداءات يومية على المسؤولين المحليين والفدراليين. غير أنها تصر على أن المجتمع الأمريكي ليس مضطرًا للتسليم بهذا الوضع باعتباره “الطبيعي الجديد”. وتدعو إلى تعاون بين الحزبين لرفض منطق الانتقام، وتبني سياسات تُعزز الأمن على المدى القصير، وتعيد بناء الثقة المجتمعية على المدى الطويل.
ترى داليا بيركويتز من مؤسسة كارنيغي أن التمجيد الإعلامي للهجمات يهدد بتطبيعها، ما يمنح مرتكبيها شرعية ضمنية. وتشدد على ضرورة مواجهة هذا الخطاب في المجتمعات المحلية وعلى منصات التواصل، وإدانة العنف من دون تردد، وإبراز أن الاختلاف السياسي يجب أن يُدار بوسائل سلمية. أما روبرت بابي من جامعة شيكاغو، فيصف الوضع الحالي بأنه “نقطة تحول تاريخية”. وبرأيه، أصبح اغتيال شخصيات بارزة أمرًا متوقعًا، ما يستدعي استجابة حاسمة من القادة في كلا الحزبين، تتضمن إدانة علنية ومتكررة للعنف، بنفس الحماسة التي يكرسونها لحملاتهم الانتخابية.
وأخيرًا، يؤكد إدواردو مونكادا من جامعة كولومبيا أن الخطر الأكبر يكمن في أن يتحول العنف إلى أمر اعتيادي. موضحًا أن ما سيحدد المسار هو كيفية تأطير السياسيين لهذه الأحداث، فهل يستغلونها لتأجيج الانقسام، أم يجعلونها دافعًا لإدانة مشتركة تعيد رسم حدود الخلاف السياسي بعيدًا عن الرصاص؟.
اقرأ أيضًا:
تايلر روبنسون.. معلومات عن المتهم باغتيال المؤثر الأمريكي تشارلي كيرك
تشارلي كيرك.. اغتيال يفجّر “قنبلة الانقسام” بأمريكا
إنفوجرافيك| تشارلي كيرك.. الوجه الشاب لترامب الذي مات مقتولًا