في تحرك هو الأول من نوعه، اخترقت اثنتان من أبرز منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل جدار الصمت الرسمي، وأصدرتا تقارير مفصلة تتهم بشكل مباشر سلطات الاحتلال بارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. هذا الموقف، الذي صدر عن منظمتي “بتسيلم” و”أطباء لحقوق الإنسان في إسرائيل”، يمثل نقطة تحول فارقة، حيث تأتي هذه الاتهامات الخطيرة من قلب المجتمع المدني الإسرائيلي نفسه، بناءً على دراسات معمقة استمرت على مدى 21 شهرًا من الصراع المدمر في غزة.
لم تكن الاتهامات مجرد تصريحات، بل استندت إلى أدلة وتحليلات قانونية دقيقة. فقد خلص تقرير “أطباء لحقوق الإنسان”، الذي جاء في 65 صفحة، إلى أن الاحتلال قام بتفكيك البنية التحتية الصحية في غزة “بطريقة مدروسة ومنهجية”. وأوضح التقرير أن الأدلة تظهر سياسة متعمدة لتدمير أنظمة الصحة والحياة، من خلال الهجمات المستهدفة على المستشفيات، وعرقلة وصول المساعدات الطبية، وقتل واعتقال الكوادر الصحية.
من جانبها، قدمت منظمة “بتسيلم” في وثيقتها المكونة من 88 صفحة، تحليلًا لسياسات الاحتلال ونتائجها المروعة، إلى جانب دراسة تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين. وقالت المنظمة إن هذا التحليل يقود إلى “استنتاج لا لبس فيه” بوجود إجراءات منسقة لتدمير المجتمع الفلسطيني في غزة بشكل متعمد. وخلصت المنظمتان إلى أن هذه الأفعال ليست حوادث عرضية للحرب، بل هي سياسة ممنهجة تلبي ثلاثة من الأفعال المحددة في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.
وتعترف التقارير بأن الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر 2023 كان “مروعًا وإجراميًا” وتسبب في صدمة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي. لكنها تؤكد أن حكومة الاحتلال استغلت هذه الصدمة لشن حملة تعتمد على “ترويج الأيديولوجيات المتطرفة وتجريد الفلسطينيين في غزة من إنسانيتهم”. وقد أشارت المنظمتان إلى الخطاب الذي استخدمه القادة لتحميل جميع سكان غزة المسؤولية الجماعية، مما خلق الغطاء الأيديولوجي لتنفيذ ما وصفوه بجريمة إبادة جماعية.
عبر قادة المنظمتين عن الثمن النفسي الباهظ الذي دفعه فريق عملهم للوصول إلى هذا الاستنتاج. وقالت يولي نوفاك، المديرة التنفيذية لـ”بتسيلم”، إن هذا “تقرير لم نتخيل أبدًا أننا سنضطر إلى كتابته”، واصفةً عملية إدراك أن بلدها يرتكب إبادة جماعية بأنها “عملية ذهنية وشخصية صعبة للغاية تكسر شيئًا أساسيًا في فهمك لمن نحن”. من جهته، أكد الدكتور جاي شاليف، المدير التنفيذي لـ”أطباء لحقوق الإنسان”، أن “الصمت في وجه الإبادة الجماعية ليس خيارًا”، داعيًا مجتمع الصحة العالمي إلى اتخاذ إجراءات عاجلة. وأعرب في الوقت نفسه عن قلقه من احتمال تعرض موظفي المنظمتين للعنف في إسرائيل ردًا على هذه التقارير الجريئة.
وكما كان متوقعًا، سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى رفض هذه الاتهامات بشدة، حيث صرح متحدث باسمها بأن قوات الاحتلال “تستهدف الإرهابيين ولا تستهدف المدنيين أبدًا”، ملقيًا باللوم على حماس في المعاناة القائمة في غزة. وتأتي هذه التقارير لتضاف إلى سلسلة من الاتهامات الدولية، بما في ذلك القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والتي تنظر حاليًا في ارتكاب الاحتلال لجريمة إبادة جماعية في غزة.