تشهد الأبحاث الطبية تقدمًا بارزًا في فهم اكتئاب ما بعد الولادة، أحد أكثر مضاعفات الولادة شيوعًا وتأثيرًا على الأمهات، وفي خطوة قد تُحدث تحولًا في مجال الصحة النفسية، أعلن علماء من جامعة فيرجينيا وجامعة جونز هوبكنز عن تطوير اختبار دم جديد قادر على التنبؤ بخطر الإصابة بالاكتئاب بعد الولادة بدقة تتجاوز 80%، ما يمنح الأمهات فرصة للكشف المبكر والعلاج الوقائي قبل ظهور الأعراض.
اكتئاب ما بعد الولادة.. اضطراب شائع وصامت
تُصاب واحدة من كل ثماني نساء في الولايات المتحدة باكتئاب ما بعد الولادة، وهو اضطراب نفسي يظهر عادة خلال الأسابيع الأولى بعد الولادة نتيجة الانخفاض المفاجئ في هرموني الإستروجين والبروجسترون.
ويؤدي هذا الاضطراب إلى مشاعر حزن عميقة وقلق مفرط وصعوبة في الترابط مع الطفل، ما يجعل الاكتشاف المبكر والعلاج المبكر أمرًا بالغ الأهمية لصحة الأم والطفل على حد سواء.
وتسعى الأبحاث الجديدة إلى تخفيف الوصمة المرتبطة بالأمراض النفسية، عبر اعتماد مقاييس بيولوجية ملموسة، مثل اختبار الدم الجديد، لتأكيد أن الاكتئاب ليس “حالة في الرأس”، بل اضطراب فيزيولوجي له مؤشرات يمكن قياسها ومعالجتها طبيًا.
“ماي لوما”.. ثورة في الكشف المبكر
الاختبار الجديد الذي يحمل اسم “ماي لوما” (myLuma) هو أول فحص دم تجاري من نوعه يستخدم المؤشرات الحيوية في الدم للتنبؤ بالاضطراب النفسي، ويعتمد الاختبار على تحليل أنماط جينية محددة ترتبط بالاستجابة الهرمونية لدى النساء خلال الحمل، ما يسمح بتحديد من هن أكثر عرضة للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة.
وتشير البحوث التي قادتها الدكتورة جينيفر باين، أخصائية علم النفس الإنجابي بجامعة فيرجينيا، إلى أن الاختبار نجح في التنبؤ بالحالات المحتملة بنسبة تفوق 80%، استنادًا إلى مراقبة جينين أساسيين هما HP1BP3 وTTC9B، واللذان يتأثران بانخفاض مستويات الإستروجين بعد الولادة، وأوضحت باين أن هذه التقنية “تنقل الطب النفسي إلى مستوى علم الأحياء”، وتساعد النساء على التعامل مع المشكلة بوعي وبدون خوف من الوصمة.
من الأبحاث إلى العيادات
من المتوقع أن يصبح اختبار myLuma متاحًا في عدد من العيادات في ولايات فلوريدا وتكساس وكاليفورنيا بحلول يناير 2026، كأداة مساعدة للأطباء في تحديد المخاطر النفسية للحوامل، وعلى الرغم من أنه لم يحصل بعد على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، إلا أن استخدامه مسموح في بعض المختبرات الطبية لمساعدة الأطباء في اتخاذ قرارات علاجية استباقية.
وتُعد هذه الخطوة جزءًا من مسار بحثي طويل بدأ منذ مطلع الألفية، حين لاحظ العلماء أن التغيرات الهرمونية بعد الولادة لا تؤثر على جميع النساء بالطريقة نفسها، ومن خلال تتبع أكثر من 500 امرأة في تجارب مختلفة، توصل الباحثون إلى أن أنماط المثيلة الجينية – وهي تعديلات كيميائية تتحكم في نشاط الجينات – يمكنها التنبؤ بمن ستُصاب باكتئاب ما بعد الولادة قبل حدوثه.
هرمونات المخ والمزاج
لا يقتصر فهم اكتئاب ما بعد الولادة على الجينات وحدها، بل يمتد إلى دراسة الهرمونات العصبية مثل ألوبرغنانولون وبريجنانولون، اللذان يلعبان دورًا في تهدئة الدماغ عبر مستقبلات GABA-A، حيث يرتفع مستوى هذه الهرمونات خلال الحمل ثم ينخفض فجأة بعد الولادة، وهو ما قد يفسر حالات الحزن والقلق الشديد لدى بعض الأمهات.
وتُظهر دراسات حديثة أن اضطراب التوازن بين هذه الهرمونات يزيد خطر الإصابة بالاكتئاب، فيما تؤكد الباحثة لورين أوزبورن من كلية طب وايل كورنيل أن قياس نسب هذه المواد في الدم قد يوفر طريقة إضافية للتنبؤ باكتئاب ما بعد الولادة بجانب اختبار myLuma.
علاج دوائي ثوري
في عام 2019، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على أول دواء لعلاج اكتئاب ما بعد الولادة، وهو “بريكسانولون”، المشتق من الهرمون الطبيعي ألوبرغنانولون، وقد تلاه في 2023 دواء فموي جديد يسمى “زورانولون”، يتميز بسرعة مفعوله وسهولة استخدامه مقارنة بالعلاجات السابقة، ويعتبر هذا التقدم الدوائي خطوة موازية لتطوير الاختبارات الوقائية، ما يتيح مزيجًا من التشخيص والعلاج المبكر لإنقاذ الأمهات من الدخول في نفق مظلم بعد الولادة.
نحو فهم أعمق واستجابة أسرع
يواصل العلماء اليوم دراسة مؤشرات حيوية إضافية مثل أنواع الحمض النووي الريبوزي والبروتينات المرتبطة بالالتهاب ووظائف الخلايا العصبية، سعيًا لتوسيع قاعدة التشخيص المبكر، كما تجري الدكتورة باين تجربة سريرية واسعة لتقييم دقة اختبار الدم الجديد، وقياس نسبة النتائج الإيجابية الكاذبة أو السلبية الكاذبة، تمهيدًا لاعتماده رسميًا من الجهات الصحية.
ومع دخول اختبار myLuma حيز الاستخدام خلال العام المقبل، يأمل الأطباء أن تتحول هذه التقنية إلى أداة أساسية في رعاية المرأة الحامل، لتصبح الولادة حدثًا مفعمًا بالأمل، وليس بداية لمعاناة صامتة.
يمكنك أن تقرأ أيضًا:
اكتشاف شكل جديد من السكري يصيب الأطفال حديثي الولادة
الوجه الخفي لتطبيقات اللياقة.. لماذا قد يكون ضررها أكبر من نفعها؟














