
منذ أكثر من عقدين، تُطارد روسيا أزمة سكانية معقدة تجمع بين تراجع أعداد السكان وتسارع وتيرة الشيخوخة، ما يدفع الكرملين إلى تبنّي سياسات متشددة ومبادرات اجتماعية غير مألوفة في محاولة لعكس المسار.
وفي أواخر التسعينيات، كانت روسيا على وشك الوصول إلى أدنى معدلات للولادة في تاريخها الحديث. ومع صعود فلاديمير بوتين إلى السلطة، تحولت القضية الديموغرافية إلى أولوية وطنية. فخلال خطبه المتكررة، شدد الرئيس الروسي على أن بقاء روسيا كقوة عظمى مرهون بزيادة المواليد، مؤكدًا أن “الأسرة الكبيرة ليست رفاهية بل واجب وطني”.
ومنذ ذلك الحين، أطلقت موسكو سلسلة من الحوافز، من الدعم المالي للأسر متعددة الأطفال إلى منح أوسمة “الأم البطلة”، لكن النتائج لم تكن على قدر التطلعات. وشهدت السنوات الأولى من الألفية انتعاشًا محدودًا في أعداد المواليد مع تحسن الاقتصاد، إلا أن هذا التحسن سرعان ما تبخر مع تفاقم الأزمة المالية وتداعيات الحرب في أوكرانيا وهجرة آلاف الشباب.
فقد انخفض عدد سكان روسيا من 147.6 مليون في عام 1990 إلى نحو 146 مليون في 2025، رغم ضم شبه جزيرة القرم واحتساب سكانها ضمن الإحصاءات الرسمية. كما ارتفعت نسبة من تجاوزوا الخامسة والخمسين من العمر من 21% إلى 30% خلال ثلاثة عقود فقط. وتُظهر الأرقام الأخيرة أن عدد المواليد في 2024 لم يتجاوز 1.22 مليون طفل – وهو قريب من أدنى مستوى سُجِّل في 1999 – فيما تتفوق الوفيات على المواليد عامًا بعد عام. ويُقدّر الخبراء أن معدل الخصوبة في روسيا يبلغ 1.4 طفل لكل امرأة، أي أقل بكثير من المعدل المطلوب للحفاظ على الاستقرار السكاني (2.1).
ويراهن الكرملين اليوم على ما يسميه “القيم التقليدية”، إذ تبنّت الحكومة قوانين تحظر “الترويج لثقافة عدم الإنجاب” أو “تشجيع الإجهاض”، وجرى توسيع نطاق القيود على حقوق مجتمع الميم. ويرى مسؤولون روس أن هذه الإجراءات جزء من “حماية الأسرة الروسية”، بينما تعتبرها ناشطات نسويات مثل ساشا تالافير محاولة لفرض أدوار اجتماعية تقليدية على النساء تحت شعار الوطنية.
التاريخ الروسي مليء بالصدمات السكانية؛ فالحرب العالمية الثانية أودت بحياة ملايين، معظمهم من الرجال، تاركة فجوة استمرت عقودًا. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، واجهت البلاد موجة جديدة من انخفاض المواليد نتيجة البطالة والفقر وعدم الاستقرار. وتوضح الباحثة البريطانية جيني ماذرز أن عدد النساء الروسيات في سن الإنجاب تقلص إلى مستويات خطيرة، في حين تُفاقم الحرب في أوكرانيا الوضع عبر خسائر بشرية كبيرة وهجرة مستمرة للشباب.
وشملت المحاولات الحكومية لتحسين الصورة وتشجيع الإنجاب، منح نقدية، قروض مدعومة، وأيام وطنية جديدة للاحتفال بالأمومة والأسرة، ولكنها لم تغير الاتجاه العام. وفي بعض المناطق، تحصل المراهقات الحوامل على دعم مالي يصل إلى 1200 دولار، خطوة يراها منتقدون تشجيعًا غير مباشر على الحمل المبكر أكثر من كونها دعمًا اجتماعيًا فعّالًا.
في الوقت نفسه، تقلصت إمكانية الوصول إلى خدمات الإجهاض، سواء عبر القوانين أو الضغط الاجتماعي. فالكثير من العيادات الخاصة توقفت عن تقديم الخدمة، فيما تُجبر النساء على الانتظار أيامًا قبل الحصول على الموافقة الطبية. ورغم انخفاض عدد عمليات الإجهاض رسميًا، لا توجد زيادة مقابلة في المواليد، ما يدفع الخبراء للتحذير من عودة الإجهاض غير الآمن وما يحمله من مخاطر على صحة النساء.
ويرى اقتصاديون أن فتح الباب أمام المهاجرين قد يكون الحل الأسرع لتعويض النقص السكاني، لكن الخطاب الرسمي الروسي يتجه عكس ذلك. ففي ظل تصاعد المشاعر المعادية للأجانب، فرضت السلطات قيودًا على عمل المهاجرين من آسيا الوسطى، ما دفع كثيرين منهم إلى البحث عن فرص في دول أخرى.
وفي ظل الحرب والعقوبات وتراجع الثقة بالمستقبل، يبدو أن الوعود الرسمية لا تكفي لإقناع الروس بإنجاب المزيد من الأطفال. فتقول شابة في موسكو: “الطفل يحتاج إلى أبوين مستقرين وسعيدين، لا إلى شعارات وطنية”.
اقرأ أيضًا:
نفق بوتين- ترامب.. مقترح الكرملين لربط الولايات المتحدة وروسيا
بعد وصف روسيا بـ “النمر الورقي”.. الكرملين يرد على ترامب
إنفوجرافيك| الاتفاقيات التاريخية بين روسيا وسوريا