في أبريل 2024، أُسدل الستار على حياة الفنزويلي خوان فيسينتي بيريز، الذي بلغ 114 عامًا و311 يومًا، ولم يكن رحيله مجرد نهايةٍ لرجلٍ استثنائي، بل ختامًا لحقبةٍ بشرية امتدت عبر قرنٍ ونصف، إذ كان آخر الرجال الأحياء الذين وُلدوا قبل عام 1910. ومع غيابه، عاد السؤال الأبدي إلى الواجهة، ما الذي يجعل بعض البشر يعبرون خط الزمن إلى ما بعد المئة؟ وهل هو الحظ، أم فلسفة حياة تتحدى الفناء؟
منذ قرون، ظلّ الفضول الإنساني تجاه طول العمر أشبه بلغزٍ مفتوح. فبينما تسعى المختبرات الحديثة لفهم الجينات والبيئة وتأثير التغذية، تظلّ الحكايات الفردية هي الأكثر إقناعًا، لأنها تكشف عن معركة غير متكافئة بين الإنسان والوقت.
وتُشير بيانات مجموعة أبحاث علم الشيخوخة (GRG) وموسوعة جينيس للأرقام القياسية إلى أن الرجال الذين تجاوزوا 113 عامًا نادرون للغاية، حتى في ظلّ تضاعف متوسط الأعمار عالميًا خلال القرن العشرين. ومع ذلك، فإن قصصهم تظلّ أكثر إثارة من الإحصاءات، لأنها تروي حكاية إرادةٍ تصرّ على الحياة، مهما أبطأ الجسد أو خانته الذاكرة.
من عميد الرجال في التاريخ؟
يتصدر الياباني جيرويمون كيمورا قائمة أطول الرجال عمرًا في التاريخ الموثق، إذ عاش 116 عامًا و54 يومًا (من 19 أبريل 1897 إلى 12 يونيو 2013)، أي أنه وُلد قبل اختراع الطائرة، وشهد الحربين العالميتين، وصعود اليابان الصناعي، وسباق الفضاء، وصولًا إلى ثورة الإنترنت، كأنه جسرٌ زمنيّ يمتد من القرن التاسع عشر إلى الحادي والعشرين.
لكن سرّ كيمورا لم يكن وراثيًا بحتًا، فقد تبنّى منذ شبابه فلسفةً حياتية ترتكز على مبدأين بسيطين: البقاء نشيطًا، وممارسة فلسفة يابانية تُعرف بـ«هارا هاتشي بونمي» (Hara Hachi Bunme) – وتعني «كُل حتى تمتلئ بنسبة 80%».
كان يؤمن بأن الامتلاء يُنهك الجسد ويُثقل الروح، بينما يمنح الجوع الخفيف طاقةً للتفكير والحركة. هذا المبدأ، الذي يبدو بسيطًا، يكشف عن وعيٍ عميق بالحدود بين الحاجة والرغبة، وكأنه يهمس بأن سرّ الحياة الطويلة لا يكمن في الامتناع، بل في الاعتدال.
ليس السر في الجغرافيا
ليست اليابان وحدها موطنًا للمعمّرين الفائقين. فقد عاش الدنماركي–الأمريكي كريستيان مورتنسن حتى 115 عامًا و252 يومًا، وتوفي عام 1998. وفي المرتبة التالية يأتي البورتوريكي إميليانو ميركادو ديل تورو بـ115 عامًا و156 يومًا. ومن أمريكا الجنوبية إلى أوروبا وآسيا، تتوزع الأسماء كشبكةٍ بشريةٍ تغطي خريطة الأرض.
هذا التنوع الجغرافي ينقض فرضية «المناطق الزرقاء» التي تُنسب إليها معدلات عمر استثنائية. فالمعمّرون ليسوا حكرًا على مناخٍ أو ثقافة غذائية بعينها، بل ثمرة تفاعلٍ بين الوراثة والانضباط والمصادفة.
المفارقة أن مورتنسن، رغم إيمانه بالاعتدال، كان يدخن السيجار بين حينٍ وآخر، بينما التزم كيمورا بنظامٍ غذائي صارم. ما يجمعهما في النهاية هو فلسفة التوازن، ليس في الطعام أو الرياضة فقط، بل في العلاقة مع الذات والزمن.
البقاء ليس حظًا
عاش هؤلاء الرجال عقودًا واجهوا فيها أوبئة قاتلة، وحروبًا عالمية، وانهيارات اقتصادية، وتحوّلات اجتماعية جذرية. ومع ذلك، ظلّوا يمشون بخطواتٍ بطيئة وثابتة، وكأنهم يوقّعون مع الزمن هدنةً صامتة.
تُظهر تجاربهم أن طول العمر ليس مكافأة وراثية فقط، بل مهارة في التكيّف. فكل واحدٍ منهم وجد طريقته الخاصة في الصمود أمام التغيرات القاسية. بيريز، مثلًا، كان فلاحًا عمل حتى أواخر التسعينيات من عمره، يؤمن بالعمل اليومي كوسيلة للبقاء الذهني والبدني.
إنهم لا يعيشون أعمارًا طويلة فحسب، بل يعيشونها ببطءٍ مقصود، لا يلهثون وراء المستقبل، ولا يُثقلهم الماضي، بل يمارسون حضورهم في الحاضر كأنه تمرينٌ دائم على النجاة.














