لم تعد الألعاب الإلكترونية مجرد تسلية أو نشاط عابر يرتبط بذاكرة الطفولة، بل تحولت اليوم إلى صناعة ضخمة تملك حضورًا اقتصاديًا وثقافيًا متناميًا، تقود فيه المملكة العربية السعودية مسارًا طموحًا يضعها في موقع ريادي عالمي، ضمن إستراتيجيتها لبناء منظومة متكاملة في قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية.
ووسط شغف اللاعبين واهتمام ملايين المتابعين، تشهد المملكة نموًا متسارعًا في هذا القطاع، حيث تستضيف الرياض سنويًا بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية، التي تجمع أبرز المحترفين من أكثر من 100 دولة. هذا الحدث الضخم لم يعد مجرد منافسة، بل منصة عالمية تبرز مكانة المملكة بوصفها مركزًا رئيسًا لرسم ملامح مستقبل هذه الصناعة.
وبحسب تقرير نشرته “واس”، يؤكد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء أن هذه البطولة تمثل رافدًا استراتيجيًا للاقتصاد الوطني، بقدرتها على إضافة أكثر من 50 مليار ريال للناتج المحلي بحلول عام 2030، وتوفير ما يزيد على 39 ألف فرصة عمل، وجعل الرياض عاصمة عالمية للألعاب الإلكترونية.
تاريخ الإنسان مع اللعب قديم بقدم الحضارة نفسها، فقد عرف الإنسان الأوّل الألعاب بالحجر والعصا والرسوم على التراب، وكانت جزءًا من حياته الاجتماعية والتربوية، قبل أن تتطور إلى وسيلة للتفكير والإبداع والتواصل. ومع مرور الزمن، تحولت الألعاب من منافسات جسدية في الساحات، إلى تجارب رقمية على الشاشات، حتى أصبحت اليوم لغة عالمية تتجاوز حدود المكان والزمان.
وتوضح الباحثة الثقافية غادة أبا الخيل أن اللعب ممارسة إنسانية عابرة للأزمنة، إذ كان وسيلة للترابط الاجتماعي والتدريب على المهارات الحياتية، قبل أن يصبح أداة للخيال والإبداع في العصر الرقمي. أما الدكتورة مها آل خشيل، أستاذة التاريخ بجامعة الأميرة نورة، فتؤكد أن الإنسان يملك حبًا فطريًا للعب، وأنه وسيلة لفهم الذات والعالم، مشيرة إلى أن الألعاب تطورت من الترفيه إلى أن أصبحت وسيطًا ثقافيًا وتعليميًا، وقوة ناعمة تعيد تشكيل وعي الأجيال.
في المملكة، تشكل الألعاب الشعبية مثل “الحجلة” و”الصقلة” جزءًا من الذاكرة الجمعية، بحسب أبا الخيل، فقد كانت فضاءً لتعليم القيم والتعاون، قبل أن تدخل أجهزة مثل “الأتاري” و”نينتندو” و”سيغا” في الثمانينات، لتحدث نقلة من ساحات الحارات الترابية إلى غرف المعيشة، ومن اللعب الجسدي إلى التجربة الرقمية. هذه النقلة لم تكن مجرد تحول تقني، بل بداية لمرحلة جديدة ارتبطت بالهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمع السعودي.
وتوضح آل خشيل أن الألعاب –التقليدية أو الرقمية– وسيلة لنقل الموروث الثقافي، إذ تعكس تفاصيل المجتمع ولهجاته وقيمه، بل تحولت في العصر الرقمي إلى “تاريخ تفاعلي” يمنح اللاعبين تجربة مباشرة في استكشاف الماضي. ومن هنا، أصبحت بعض الألعاب وسيلة لترسيخ الوعي التاريخي.
لم تكتف المملكة بدور المتلقي، بل دخلت مجال إنتاج الألعاب الرقمية بروح محلية. لعبة “الرِّكاز: في أثر ابن بطوطة” (2013) مثلت تجربة سعودية رائدة أعادت صياغة شخصية الرحالة الشهير في إطار رقمي حديث، فيما قدمت لعبة “أبو خشم” نموذجًا آخر عكس ملامح الشوارع السعودية ولهجتها المحلية. ورغم محدودية بعض هذه التجارب، فإنها شكلت أرضية لإبداع جيل جديد من المطورين السعوديين.
وتشير أبا الخيل إلى أن هذه المحاولات تمثل وسيلة لتسويق التراث المحلي عالميًا، ليس كعرض فولكلوري جامد، بل كتجربة تفاعلية تعيد تقديم الثقافة بشكل حي، حيث يصبح الطفل أكثر ارتباطًا بالتراث عندما يراه داخل لعبة يتفاعل معها.
ولا يتوقف استثمار المملكة في الألعاب عند الاقتصاد، بل يمتد إلى البعد الثقافي والدبلوماسي. فالمشاركة في بطولات مثل Gamers8 وكأس العالم للرياضات الإلكترونية، تفتح المجال أمام العالم للتعرف على السعودية بصورة جديدة، كساحة متطورة قادرة على استضافة أحداث عالمية. وبهذا، يصبح اللاعب السعودي سفيرًا غير رسمي لبلده، ينقل للعالم قيم مجتمعه وثقافته من خلال التفاعل الرقمي.
اليوم، يشارك أكثر من 3.4 مليارات شخص حول العالم في الألعاب الإلكترونية، ويصل عدد مشاهدي الرياضات الإلكترونية إلى مئات الملايين. وفي نسخة بطولة هذا العام التي استضافتها الرياض، شارك أكثر من 2000 لاعب من 200 فريق يمثلون 100 دولة، للتنافس على جوائز تجاوزت 70 مليون دولار. كما سجلت واردات أجهزة الألعاب في السعودية أكثر من 2.4 مليون جهاز خلال عامي 2024 و2025، فيما أظهر تقرير “إنترنت السعودية 2024” تحسنًا كبيرًا في أداء الألعاب عبر الشبكات بنسبة 88%، ما يعكس حجم الاستثمارات في البنية التحتية التقنية.
ولضمان بيئة آمنة، تعمل الهيئة العامة لتنظيم الإعلام على تصنيف الألعاب إلكترونيًا وفق الفئات العمرية، وهو أول نظام من نوعه في الشرق الأوسط. ومع تطوير التصنيفات مؤخرًا لتشمل فئة “21+”، أصبحت السعودية الأسرع عالميًا في اعتماد التصنيفات، حيث يستغرق الأمر يومًا إلى ثلاثة أيام فقط، وهو ما عزز من ثقة الشركات العالمية بالسوق السعودي.
كما أطلقت المملكة استراتيجية وطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية عام 2022، تتضمن 86 مبادرة، تشرف عليها 20 جهة حكومية وخاصة، وتهدف إلى تطوير التقنية والإنتاج المحلي، وبناء البنية التحتية، واستقطاب المواهب. ويبرز ضمن هذه الطموحات مشروع مدينة القدية، أول مدينة في العالم صُممت بشعار “اللعب أسلوب حياة”، لتجسد رؤية المملكة في جعل الترفيه صناعة اقتصادية وثقافية متكاملة، تعبر عن تطلعات الأجيال، وتعيد تعريف العلاقة بين المجتمع والتقنية.
اقرأ أيضًا:
بطولات السعودية في الألعاب الإلكترونية.. مجد رقمي للمملكة
من الحظر إلى السجن.. عقوبات الغش في الألعاب الإلكترونية
إنفوجرافيك | أكثر الألعاب الإلكترونية لعبًا في 2024