مضيق تايوان.. تاريخ التصعيد في شريان الملاحة العالمي

ديسمبر ٢٣, ٢٠٢٥

شارك المقال

مضيق تايوان.. تاريخ التصعيد في شريان الملاحة العالمي

على مدار أكثر من 6 عقود، شهد مضيق تايوان عدة أزمات بين بكين وتايبييه تخللها تهديدات عسكرية، ما أثار القلق حول مستقبل الممر المائي الذي يُعد شريانًا رئيسيًا للتجارة العالمية نقطة محورية في السياسة الإقليمية والأمن البحري. وجعل هذا الصراع المستمر بهدف السيطرة على المضيق، أي تحرك عسكري أو سياسي فيه مصدرًا للتوتر العالمي. تأثيره يمتد من الأمن الإقليمي إلى سلاسل الإمداد والتجارة الدولية.

عن مضيق تايوان؟

مضيق تايوان هو ممر بحري ضيق يبلغ عرضه نحو 160 كيلومترًا ويفصل بين مقاطعة فوجيان الواقعة شرق الصين وجزيرة تايوان الرئيسية، التي يقطنها حوالي 23 مليون نسمة. ويعد أحد أهم الطرق البحرية في العالم نظرًا لدوره المحوري في حركة التجارة الدولية. وأظهر تحليل حديث أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أن المضيق شهد مرور سلع بقيمة 2.45 تريليون دولار في عام 2022 وحده، تشمل الطاقة والإلكترونيات والمعادن وغيرها، ما يمثل أكثر من خُمس التجارة البحرية العالمية.

وتكتسب هذه الأهمية الاستراتيجية صبغة حرجة بسبب النزاع القائم بين الصين وتايوان، حيث تعتبر بكين الجزيرة جزءًا من أراضيها. ويؤكد الباحثون أن أي قيود على الملاحة أو عمل عسكري في المضيق يمكن أن يعطل سلاسل الإمداد العالمية، ويؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الصيني. ويشير ماثيو ب. فونايول، الباحث في مشروع قوة الصين بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن التوترات في المنطقة ليست قضية محلية فحسب، بل تمثل "مسألة عالمية"، مضيفًا أن أي حادثة كحصار المضيق أو غزو محتمل ستؤدي إلى اضطرابات كبيرة في التجارة الدولية، مع تداعيات اقتصادية واسعة النطاق على العديد من الدول.

مضيق تايوان.. شريان تجاري حيوي

تبرز بيانات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية صورة أوضح لمدى اعتماد دول مجموعة السبع ومجموعة بريكس على مضيق تايوان. وتكشف الأرقام عن تفاوت حاد بين المجموعتين؛ فداخل مجموعة السبع تبرز اليابان بوصفها الحالة الأكثر اعتمادًا، إذ يمر عبر المضيق نحو 25.2% من صادراتها و32.1% من وارداتها، ما يجعل هذا الممر عنصرًا محوريًا في تجارتها وأمنها الطاقي، في حين تبقى نسب الاعتماد لدى بقية دول المجموعة محدودة، ولا تتجاوز في معظمها 3% من الصادرات أو الواردات لدى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

في المقابل، تُظهر دول بريكس مستويات اعتماد أعلى وأكثر اتساعًا، إذ تمر 32.5% من واردات الصين و14.9% من صادراتها عبر المضيق، ما يضع ثاني أكبر اقتصاد في العالم في قلب أي اضطراب محتمل. كما تعتمد الإمارات وإيران بشكل لافت على هذا الممر، حيث يمر عبره نحو 24.8% من صادرات الإمارات و24% من صادرات إيران، إلى جانب نسب معتبرة من الواردات. وتمتد هذه الحساسية إلى دول أخرى في المجموعة، مثل الهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا، التي تتراوح نسب اعتمادها بين نحو 10% و15% في الصادرات أو الواردات. ويعكس هذا التباين أن أي تصعيد في مضيق تايوان ستكون انعكاساته غير متساوية عالميًا، مع تركّز المخاطر بصورة أكبر على اقتصادات بريكس واليابان مقارنة ببقية دول مجموعة السبع.

ولا يقتصر دور مضيق تايوان على كونه حيويًا للمحيطين الهندي والهادئ فحسب، بل تمتد أهميته لتشمل دولًا في أفريقيا والشرق الأوسط، التي تعتمد عليه في شحن مواردها الأساسية إلى آسيا. فدول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وأنغولا تمرّر عبر المضيق كميات كبيرة من المواد الخام، بما في ذلك النفط والنحاس، إلى الصين، ما يعكس البعد الاقتصادي العالمي لهذا الممر البحري الحيوي.

أهمية مضيق تايوان بالنسبة للصين

خلال عام 2022، مرّت عبر المضيق واردات وصادرات صينية بقيمة هائلة بلغت 1.4 تريليون دولار في العام نفسه. وتعتمد الصين على هذا الممر البحري في نحو ثلث وارداتها، خاصة النفط والفحم والغاز الطبيعي، بالإضافة إلى المواد الخام والمعادن اللازمة للصناعات المختلفة.

ولا يقتصر الأثر على التجارة الخارجية فحسب، بل يمتد أيضًا إلى الحركة الداخلية للبضائع داخل الصين، إذ تمر أكثر من نصف الرحلات البحرية عبر المضيق بين الموانئ الصينية المختلفة. ومن ثم، فإن أي اضطراب في هذا الممر قد يؤدي إلى تعطيل كبير في سلاسل الإمداد الداخلية والخارجية على حد سواء، مما يضاعف المخاطر الاقتصادية للصين.

محطات التوتر بين الصين وتايوان

شهد مضيق تايوان منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية سلسلة من الأزمات التي شكلت صراعًا مستمرًا بين الصين وتايوان، مع تدخل الولايات المتحدة أحيانًا لدعم تايوان.

1954- 1955 – الأزمة الأولى

بدأت الأزمة بقصف الصين لثلاث جزر تابعة لتايوان، بما في ذلك كينمن وماتسو، ما دفع الولايات المتحدة لتوقيع معاهدة الدفاع المشترك الصينية الأمريكية وتفعيل قرار "فورموزا" لدعم الدفاع عن الجزيرة. وانتهت الأزمة بتراجع جزئي للصين دون حل جذري للنزاع.

1958 – الأزمة الثانية

استؤنف القصف على جزيرتي كينمن وماتسو، واستجابت الولايات المتحدة بتزويد الجزيرة بأسلحة متقدمة وخطط دفاعية، بينما استمر التوتر المتقطع حتى عام 1979 بعد الاعتراف الرسمي بجمهورية الصين الشعبية.

1995- 1996 – الأزمة الثالثة

اندلعت بعد منح الولايات المتحدة تأشيرة لرئيس تايوان لي تنغ هوي، ما اعتبرته بكين خرقًا لمبدأ "الصين الواحدة". أجرت الصين مناورات واسعة تشمل حصار الجزيرة وتدريبات إنزال برمائي، وردت واشنطن بإرسال حاملات طائرات، وانتهت الأزمة تدريجيًا بعد الانتخابات التايوانية.

2022 -2023 – الأزمة الرابعة

بدأت مع زيارة نانسي بيلوسي لتايوان واستمرت بعد لقاء رئيسة تايوان، تساي إنغ-وين، برئيس مجلس النواب الأمريكي في 2023. شهد المضيق مناورات صينية غير مسبوقة، تشمل إطلاق صواريخ وتكثيف الطيران والوجود البحري. وعكست الأزمة استمرار الصين في استخدام القوة العسكرية كأداة ضغط سياسي، مع بقاء الولايات المتحدة ملتزمة بعرض القوة للحفاظ على الاستقرار.

التدريبات العسكرية الصينية.. رسالة ردع سياسية

تلجأ الصين إلى تنظيم تدريبات عسكرية واسعة حول تايوان ليس فقط كتمارين عسكرية، بل كأداة رسائل سياسية تهدف إلى الردع وفرض الضغط النفسي على الجزيرة. فقد ووصفت بكين أحد تدريباتها في مطلع العام الجاري بأنه "تحذير صارم وردع قوي" ضد ما تعتبره القوات الانفصالية التايوانية. وشملت التدريبات دوريات الاستعداد القتالي البحري والجوي، الهجوم على الأهداف البحرية والبرية، وحصار الممرات البحرية الرئيسية لاختبار القدرات المشتركة للقوات في حال اندلاع نزاع.

ولم تكن تلك المرة الأولى التي تستخدم فيها بكين القوة العسكرية لإيصال رسائل سياسية. فمنذ عام 2022، كثفت الصين مناوراتها حول تايوان، إذ أجرت أربع تدريبات كبيرة، بما في ذلك "السيف المشترك 2024 أ" في مايو و"السيف المشترك 2024 ب" في أكتوبر، تزامنًا مع أحداث سياسية اعتبرتها بكين استفزازية، مثل خطابات المسؤولين التايوانيين أو زيارات دبلوماسيين أمريكيين.

وردت تايوان على هذه المناورات بنشر طائرات وسفن وأنظمة صواريخ أرضية، واصفة بكين بأنها "أكبر مثير للمشاكل". ويشير الخبراء إلى أن تدريبات بكين تتكرر على نمط واضح وتتضمن: حجم واسع، محاكاة للهجوم والصواريخ، واستعراض للقوة البحرية والجوية، وهو ما يعكس استراتيجية بكين في استخدام التدريبات العسكرية كأداة ضغط سياسية للسيطرة على الخطاب الإقليمي وإرسال رسائل تحذيرية داخلية وخارجية في الوقت نفسه.

تداعيات صراع طويل الأمد حول تايوان

تحتل تايوان موقعًا استراتيجيًا في الاقتصاد العالمي بفضل سيطرتها على أكثر من 90% من رقائق الحوسبة المتقدمة المستخدمة في كل شيء من الهواتف الذكية إلى المعدات العسكرية الدقيقة. ويشير المحللون إلى أن أي غزو صيني للجزيرة سيؤدي إلى اضطراب كارثي في سلاسل التوريد العالمية، بينما قد تتسبب اضطرابات أقل حدة، مثل حصار الجزيرة، في تحويل الشحنات وإلغاء الطلبات، بما ينعكس على المستهلكين حول العالم.

وأوضح روبرت أ. مانينغ، خبير الشؤون الصينية في مركز ستيمسون بواشنطن، أن صراعًا طويل الأمد حول تايوان قد يؤدي إلى "انهيار الأسواق المالية، تقلص التجارة، وتجميد سلاسل التوريد، ما سيدفع الاقتصاد العالمي نحو ركود حاد". وتقدر مجموعة روديوم أن الحصار المحتمل للجزيرة قد يكلف الشركات التي تعتمد على رقائق تايوان نحو 1.6 تريليون دولار سنويًا.

إضافةً إلى الأبعاد الاقتصادية، يمثل الغزو تهديدًا مباشرًا للحريات الديمقراطية في تايوان وطبيعة حياتها السياسية والاجتماعية، كما قد يشعل صراعًا أوسع نطاقًا بسبب اتفاقيات الدفاع الأمريكية غير الرسمية مع الجزيرة.

اقرا ايضًا:
سيناريوهات الحرب.. ماذا لو اجتاحت الصين تايوان؟
لماذا تعتبر تايوان مهمة للولايات المتحدة؟
مشروع مانهاتن الصيني.. هل ينهي احتكار تايوان للرقائق؟

الأكثر مشاهدة

أحصل على أهم الأخبار مباشرةً في بريدك


logo alelm

© العلم. جميع الحقوق محفوظة

Powered by Trend'Tech

مضيق تايوان.. تاريخ التصعيد في شريان الملاحة العالمي - العلم