يمثل ملف تايوان اليوم الفتيل الأكثر خطورة في صراع القوى العظمى، حيث تتحول الجزيرة من مجرد نقطة خلاف حدودي موروث من الحرب الأهلية الصينية إلى ساحة محتملة لمواجهة عسكرية قد تعيد تشكيل النظام العالمي بأسره.
كيف وصل الصراع في تايوان إلى حافة الهاوية؟
تعود جذور الأزمة الحالية إلى عام 1949، عندما انتهت الحرب الأهلية الصينية بانتصار الشيوعيين بقيادة ماو زيدونغ، مما دفع القوميين المهزومين (الكومينتانغ) بزعامة تشيانغ كاي شيك إلى اللجوء لجزيرة تايوان.
ومنذ ذلك الحين، تعيش الجزيرة في حالة من الانفصال السياسي الفعلي، حيث تدير شؤونها كديمقراطية مستقلة تحت مسمى "جمهورية الصين"، بينما تصر بكين (جمهورية الصين الشعبية) على أن الجزيرة ليست سوى مقاطعة متمردة يجب "إعادة توحيدها" مع البر الرئيسي، ولو اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية الغاشمة.
وعلى مدار عقود، حافظ "الغموض الاستراتيجي" الأمريكي على توازن هش في المنطقة، إلا أن وصول الرئيس شي جين بينغ للسلطة غير قواعد اللعبة، حيث وضع عام 2049 موعدًا نهائيًا لتحقيق "النهضة الصينية" الشاملة التي لا تكتمل إلا بضم تايوان.
ويؤكد القادة العسكريون في بكين أن بلادهم لم تعد تقبل باستمرارية الوضع الراهن إلى الأبد، وهو ما يفسر تحويل المناورات العسكرية حول الجزيرة إلى ما يشبه "الروتين اليومي"، مما يزيد من احتمالات وقوع خطأ حسابي قد يشعل شرارة حرب لا تبقي ولا تذر.
هل تطلق تايوان رصاصة الحرب العالمية الثالثة؟
تثير احتمالات غزو تايوان مخاوف جدية من تحول النزاع إلى حرب عالمية ثالثة، نظرًا للالتزامات الأمريكية غير الرسمية بالدفاع عن الجزيرة وتصريحات رؤساء الولايات المتحدة المتكررة بهذا الشأن، فبينما تحاول واشنطن ردع بكين، يرى المحللون أن أي صدام مباشر بين القوتين النوويتين الأعظم في العالم لن يبقى محصورًا في حدود المضيق، بل قد يمتد ليشمل القواعد الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، مما يجر قوى إقليمية ودولية إلى أتون مواجهة كونية ستؤدي حتمًا إلى شلل كامل في سلاسل التوريد العالمية وانهيار الاقتصاد الرقمي الذي يعتمد بنسبة 90% على رقائق الجزيرة المتقدمة.
وبالإضافة إلى البعد العسكري، فإن وقوع تايوان في يد الصين سيعني سيطرة بكين على أهم الممرات المائية في العالم، مما يمنحها قدرة غير مسبوقة على خنق التجارة الدولية والتحكم في أمن جيرانها.
يدفع هذا السيناريو القوى الغربية لتعزيز وجودها العسكري في المحيط الهادئ، معتبرة أن الدفاع عن ديمقراطية الجزيرة هو في الحقيقة دفاع عن النظام العالمي الليبرالي القائم، وعن حرية الملاحة في ممرات مائية حيوية لا يمكن تركها تحت الهيمنة المنفردة لجمهورية الصين الشعبية.
الفجوة العسكرية الهائلة بين الصين وتايوان
تكشف لغة الأرقام عن اختلال هائل في ميزان القوى لصالح بكين؛ فبينما يمتلك جيش التحرير الشعبي الصيني أكبر أسطول بحري في العالم بأكثر من 370 سفينة حربية ومليوني جندي نشط، لا يتجاوز عدد القوات النشطة في تايوان نحو 169 ألف جندي.
وتتفوق الصين جوًا بمئات المقاتلات من الجيل الخامس (J-20) وآلاف الصواريخ الباليستية متوسطة المدى القادرة على مسح القواعد العسكرية التايوانية والأمريكية في المنطقة، مما يجعل أي مواجهة تقليدية تبدو كأنها معركة خاسرة للجزيرة منذ البداية إذا لم يتدخل حلفاؤها بسرعة وحسم.
ولكن، تعول تايوان على استراتيجية "القنفذ" التي تهدف إلى جعل تكلفة الغزو باهظة جدًا لبكين عبر استخدام أسلحة غير متماثلة مثل الصواريخ الجوالة المضادة للسفن، والألغام البحرية الذكية، والطائرات المسيرة الانتحارية.
وتراهن الجزيرة على جغرافيتها الوعرة، حيث لا يوجد سوى عدد قليل من الشواطئ المناسبة لعمليات الإنزال البرمائي، مما يمنح المدافعين ميزة استراتيجية في صد الموجات الأولى من الهجوم.
ولا يتمثل الهدف التايواني في هزيمة الصين عسكريًا، بل الصمود لفترة كافية تسمح بتدخل دولي أو فرض عقوبات اقتصادية خانقة تجبر بكين على التراجع.
سيناريو حصار تايوان مطروح
يتوقع خبراء عسكريون أن الصين قد لا تبدأ بغزو شامل، بل قد تلجأ إلى سيناريو "الحصار" أو "الحجر الصحي" البحري والجوي لخنق تايوان اقتصاديًا.
وبموجب هذا السيناريو، يمكن لبكين إعلان مناطق "حظر طيران" أو "تفتيش جمركي" في المياه المحيطة بالجزيرة تحت ذريعة إجراء مناورات أو حماية سيادتها، مما سيؤدي إلى توقف السفن التجارية وناقلات الطاقة.
وبما أن الجزيرة تستورد 97% من طاقتها و70% من غذائها، فإن الحصار قد يجبرها على الاستسلام في غضون أسابيع دون إطلاق رصاصة واحدة، وهو ما يمثل تحديًا قانونيًا وعسكريًا لواشنطن التي ستضطر للاختيار بين كسر الحصار والمخاطرة بالحرب أو التخلي عن حليفتها.
وتعتبر هذه التكتيكات جزءًا من "حرب المنطقة الرمادية" التي تمارسها بكين بالفعل، حيث ترسل طائراتها لاختراق منطقة تحديد الهوية الدفاعية لتايوان بشكل شبه يومي لاستنزاف قدرات الطيارين التايوانيين واختبار ردود أفعالهم.
كما تشمل هذه الحرب حملات تضليل إعلامي وهجمات سيبرانية تستهدف البنية التحتية الحيوية للجزيرة، بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي وإقناع المواطنين بأن مقاومتهم عبثية وأن "التوحيد السلمي" هو الخيار الوحيد لتجنب الدمار الشامل.
مواجهة برمائية محتملة في تايوان
وتمثل عملية "الغزو البرمائي" السيناريو الأكثر دموية وتعقيدًا، حيث تتطلب عبور مئات الآلاف من الجنود الصينيين لمضيق تايوان البالغ عرضه 140 كيلومترًا تحت وابل من الصواريخ التايوانية.
وتظهر التحليلات العسكرية أن بكين تعمل على بناء "أرصفة عائمة" وسفن نقل مدنية عملاقة لتعزيز قدرتها على الإنزال البري.
وفي حال نجحت القوات الصينية في تأمين رأس جسر على أحد الشواطئ، فإن المعارك ستنتقل إلى المدن المزدحمة مثل تايبيه، حيث تتحول المواجهة إلى حرب شوارع طاحنة يسعى فيها المدافعون عن الجزيرة لاستغلال الكثافة السكانية والغابات الجبلية لتعطيل التقدم الصيني.
وبالإضافة إلى القتال التقليدي، ستلجأ الصين حتمًا إلى ضربات صاروخية "جراحية" تستهدف مراكز القيادة والسيطرة ومحطات الكهرباء والاتصالات في تايوان لشل قدرة الحكومة على إدارة الدفاع.
ويحذر قادة عسكريون أمريكيون من أن بكين طورت صواريخ "قاتلة للحاملات" قادرة على منع الأسطول الأمريكي من الاقتراب من الجزيرة، مما يضع واشنطن أمام معضلة عسكرية لم تواجهها منذ الحرب العالمية الثانية.
هل تنزلق تايوان نحو الدمار الشامل؟
ويظل البعد النووي هو الظل القاتم الذي يخيم على صراع تايوان، حيث تمتلك الصين ترسانة نووية متنامية تهدف إلى ردع التدخل الأمريكي.
ويخشى الخبراء أنه في حال شعرت بكين بفشل غزوها التقليدي أو إذا واجهت تدخلًا عسكريًا أمريكيًا ساحقًا يهدد وجود النظام في بكين، فقد تلجأ إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية أو التلويح بها لفرض وقف إطلاق نار بشروطها.
يجعل هذا التهديد النووي من التدخل الغربي مغامرة محفوفة بالمخاطر، حيث تحاول واشنطن جاهدة الحفاظ على توازن يمنع الغزو الصيني دون دفع الأمور نحو حافة "الحرب النووية".
وفي المقابل، تؤكد جمهورية الصين الشعبية أن قضية تايوان هي شأن داخلي صرف، وأنها لن تسمح لأي قوة خارجية بالتدخل، محذرة من أن "اللعب بالنار سيحرق من يلعب به".
وتقترن هذه اللهجة التصعيدية بزيادة الإنفاق العسكري الصيني بنسبة 7.2% سنويًا، تشير أن بكين تستعد لليوم الذي ستكون فيه قادرة على مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها وجهًا لوجه، مما يجعل العقد الحالي هو الفترة الأكثر حرجًا في تاريخ المضيق منذ انفصال الطرفين قبل أكثر من سبعة عقود.














