كشفت دراسات وبحوث علمية حديثة أن التوسع السريع في استخدام التقنية والذكاء الاصطناعي قد يؤثر سلبًا على القدرات الذهنية والوظائف الإدراكية للإنسان بمرور الوقت، فيما أطلق عليه العلماء “مرحلة الغباء الذهبي”.
وفي مختبر الوسائط بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في كامبريدج بالولايات المتحدة، تُعرض سلسلة من الابتكارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، من روبوتات صغيرة إلى أعمال فنية صممها الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى أدوات تساعد المستخدمين في حياتهم اليومية مثل أنظمة فرز النفايات الذكية. وضمن هذه المشاريع، تعمل الباحثة ناتاليا كوزمينا على تطوير أجهزة قابلة للارتداء تهدف إلى تحسين التواصل للأشخاص الذين فقدوا القدرة على النطق نتيجة أمراض عصبية. أحد ابتكاراتها جهاز يشبه النظارة يمكنه تحديد حالة التركيز أو الارتباك لدى المستخدم.
وخلال العامين الماضيين، بدأت كوزمينا تتلقى رسائل من أشخاص يقولون إن استخدامهم لبرامج الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل ChatGPT أثّر على ذاكرتهم وطريقة تفكيرهم. وتزامن ذلك مع ملاحظاتها لتزايد اعتماد زملائها وطلابها على هذه البرامج، إذ لاحظت تغيرًا في أسلوب كتاباتهم وسلوكهم أثناء المقابلات، ما أثار تساؤلات حول مدى فهمهم الحقيقي لما ينتجونه بمساعدة التقنية.
للتحقق من هذه الملاحظات، أجرت كوزمينا تجربة علمية بالتعاون مع فريق من معهد MIT، استخدموا فيها أجهزة تخطيط كهربية الدماغ لمراقبة نشاط أدمغة 54 مشاركًا أثناء كتابة نصوصهم. انقسم المشاركون إلى ثلاث مجموعات: مجموعة كتبت يدويًا، وأخرى استعانت بمحركات البحث، وثالثة استخدمت ChatGPT. وأظهرت النتائج أن النشاط العصبي المرتبط بالتركيز والإبداع والمعالجة المعرفية انخفض بشكل واضح لدى المستخدمين الذين اعتمدوا على الذكاء الاصطناعي. كما تبين أن هؤلاء كانوا أقل قدرة على تذكر ما كتبوه مقارنة بالمجموعات الأخرى.
ونشرت كوزمينا نتائج تجربتها على الإنترنت في يونيو الماضي دون أن تتوقع انتشارها الواسع. بعد النشر، تلقت آلاف الرسائل من معلمين وباحثين أعربوا عن قلقهم من أن الطلاب أصبحوا ينجزون مهامهم بمستويات شكلية من الفهم بسبب اعتمادهم على الذكاء الاصطناعي. وتوضح كوزمينا أن المشكلة تكمن في طبيعة الدماغ البشري الذي يميل إلى الحلول السهلة. وتؤكد أن التعليم والتفكير يحتاجان إلى جهد ومقاومة، بينما تعمل التقنية الحديثة على إزالة كل الاحتكاك عبر تصميم تجارب “سلسة” تجعل الإنسان أقل اعتمادًا على قدراته الذهنية المباشرة.
ويتجلى هذا التوجه في الحياة اليومية من خلال الاعتماد الكامل على التطبيقات في تنفيذ أبسط المهام، من الحسابات إلى التنقل وشراء الاحتياجات. ويرى بعض الخبراء أن هذه السهولة المفرطة تقود إلى ما يسمى بـ”مجتمع الغباء”، وهو مفهوم يشبه “مجتمع السمنة” من حيث أن الراحة المفرطة تضعف القدرات الأساسية للإنسان.
وتشير بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أن نتائج اختبار “بيزا” لقياس مهارات القراءة والرياضيات والعلوم لدى طلاب الثانوية بلغت ذروتها في عام 2012، ثم بدأت بالانخفاض في العديد من الدول المتقدمة. كما أظهرت دراسات أخرى تراجعًا تدريجيًا في معدلات الذكاء بعد قرن من التحسن المستمر. وتحذر كوزمينا من أن شركات التقنية تسوّق أدواتها دون دراسة كافية لتأثيراتها المعرفية، مضيفةً أن “المطورين وتجار المخدرات فقط هم من يسمّون عملاءهم مستخدمين”.
وتُظهر هذه الظواهر أن الإنسان بات يؤدي دور المستخدم أكثر من المفكر، وأن الاعتماد المتزايد على الأنظمة الذكية يهدد الاستقلالية الفكرية والقدرة على النقد الذاتي.
تاريخيًا، لم يكن القلق من التقنية جديدًا. فقد اعتبر الفيلسوف سقراط أن الكتابة تُضعف الذاكرة وتشجع على معرفة سطحية، لكن تطور الكتابة والمطبعة ثم الإنترنت أدى في النهاية إلى توسيع نطاق المعرفة البشرية. ومع ذلك، يشير الباحثون اليوم إلى أن العلاقة بين الإنسان والتقنية تغيرت جذريًا؛ فالأدوات لم تعد مجرد وسيلة مساعدة، بل أصبحت تفكر نيابة عنه.
ويُشير خبراء علم الإدراك إلى مفهوم “تفريغ الطاقة المعرفية”، أي استخدام الأدوات والبيئة المادية لتخفيف الضغط الذهني، وهو ما يفسر اعتماد البشر على الأجهزة والتطبيقات لتذكر المواعيد أو إجراء العمليات الحسابية. غير أن هذا الاعتماد المستمر قد يؤدي إلى ضعف تدريجي في القدرات الذهنية الأساسية. وفي المقابل، يرى بعض الباحثين أن التعاون بين الإنسان والآلة قد يفتح آفاقًا جديدة، مثل تسريع تطوير الأدوية أو تحسين تشخيص الأمراض. لكنهم يتساءلون، إذا كانت التقنية تجعلنا أكثر كفاءة، فلماذا يشعر كثيرون بأنهم أقل وعيًا وأضعف تركيزًا؟.
في عام 2024، اختارت جامعة أكسفورد مصطلح “تعفن الدماغ” ليكون كلمة العام، تعبيرًا عن ظاهرة فقدان التركيز والانغماس في محتوى سطحي على الإنترنت، بما يشمل مقاطع الفيديو القصيرة والميمات والمواد المشتتة. ويرى باحثو الإعلام الرقمي أن السبب في ذلك أن المنصات الإلكترونية لا تُصمم لمساعدة المستخدمين على التفكير بعمق، بل لجذب انتباههم واستثماره اقتصاديًا، مما يحوّل الإنترنت إلى فضاء مليء بما يمكن تسميته بـ”صحارى المعلومات” زهي مناطق تفتقر إلى محتوى ذي قيمة معرفية.
وفي هذا السياق، رصدت الباحثة التقنية ليندا ستون في تسعينيات القرن الماضي سلوكًا جديدًا لدى مستخدمي التقنية أطلقت عليه اسم “الانتباه الجزئي المستمر”، وهو حالة ذهنية يعيش فيها الإنسان مشتتًا بين مهام متعددة في الوقت نفسه، ما يؤدي إلى إرهاق معرفي دائم. وتشير دراسات ستون إلى أن 80٪ من المستخدمين يعانون مما أسمته “انقطاع النفس الرقمي” أثناء التعامل مع البريد الإلكتروني، أي توقفهم عن التنفس الطبيعي بسبب التوتر الناتج عن تدفق الإشعارات المستمر. وتؤكد أن هذا التوتر المزمن يؤثر سلبًا على الذاكرة واتخاذ القرار والانتباه.
اقرأ أيضًا:
العمل بنظام الورديات قد يضعف الوظائف الإدراكية والذاكرة
اكتشاف بروتين قد يعيد الشباب إلى أدمغة المسنين.. كيف ذلك؟
هل يبدأ الزهايمر قبل الثلاثين؟