تمثل الحوسبة الإكساسكيل (Exascale Computing) نقلة نوعية في عالم التكنولوجيا والحوسبة عالية الأداء، حيث تصل إلى سرعات غير مسبوقة تتجاوز كوينتيليون عملية حسابية في الثانية (1 إكسا = 10¹⁸)، وهي مستوى لم يكن بالإمكان تصوره قبل سنوات، لكنها اليوم أصبحت حقيقة واقعة بفضل التطورات التقنية المتسارعة في مجال المعالجات وأنظمة الحوسبة المعقدة.
يُعد نظام “فرونتير” الذي أطلقته شركة HPE في عام 2022 أول حاسوب إكساسكيل في العالم، بسرعة تشغيل بلغت 1.102 إكسافلوب، تلاه جهاز “إل كابيتان” بسرعة مذهلة بلغت 1.742 إكسافلوب، ما جعله يتربع على عرش أقوى الحواسيب عالميًا، وتشير كلمة “فلوب” إلى عدد “عمليات الفاصلة العائمة في الثانية” – وهي وحدة قياس الأداء للحواسيب الفائقة.
ببساطة، حاسوب الإكساسكيل قادر على تنفيذ مليار مليار عملية حسابية في الثانية الواحدة. بينما تعمل الحواسيب المنزلية عادة بسرعات لا تتجاوز عدة تيرافلوب، فإن الحاسوب الإكساسكيل يتفوق عليها بملايين المرات.
هذه القدرات الحسابية الضخمة تتيح له تنفيذ مهام لم تكن ممكنة من قبل، مثل محاكاة الطقس على مستوى كوكب الأرض، أو تصميم أدوية جديدة بدقة بالغة، أو تحليل البيانات الجينية للأوبئة.
صرّح “جيرالد كلاين” من شركة HPE بأن هذه القوة تمكن من “حل المشكلات إما على نطاق أوسع بكثير، مثل محاكاة كوكب كامل، أو بدقة أعلى بكثير”، وهو ما لم يكن متاحًا حتى لأفضل الحواسيب العملاقة قبل ظهور تقنية الإكساسكيل.
لقد ساعدت حوسبة الإكساسكيل خلال جائحة كوفيد-19 في جمع وتحليل كميات ضخمة من البيانات الجينية للفيروس، ما ساعد العلماء على تطوير لقاحات وفهم كيفية انتشار الفيروس على نحو غير مسبوق من السرعة والدقة.
كما يتم استخدام هذه الحواسيب الفائقة في مجالات الهندسة، لاختبار تصاميم محركات افتراضيًا، وكذلك في علم المناخ، لمحاكاة تغير المناخ وتأثيره على مدى قرون.
وبفضل هذه القدرات، أصبحت أجهزة الإكساسكيل أداة لا غنى عنها في المؤسسات الحكومية، والجامعات، والشركات الكبرى، التي تعتمد على الحوسبة المتقدمة لتطوير منتجات أو أبحاث علمية معقدة.
رغم ما تحققه من إنجازات، إلا أن بناء وتشغيل أجهزة حوسبة الإكساسكيل ليس بالأمر السهل، إذ تتطلب هذه الأنظمة آلاف وحدات المعالجة المركزية (CPU) ووحدات المعالجة الرسومية (GPU) المتطورة، متصلة ببنية تحتية متكاملة وشبكات اتصال فائقة السرعة، كما أن أي خلل بسيط في أحد هذه المكونات قد يؤدي إلى انهيار النظام أو فشله.
وبحسب بيكا مانينين، مدير العلوم في مركز CSC، فإن تنظيم العمليات بين ملايين وحدات المعالجة يتطلب برامج متخصصة قادرة على إدارة الأداء بدقة شديدة، ومن بين أبرز التحديات أيضًا: استهلاك الطاقة المرتفع، وتوليد الحرارة الهائلة، مما يجعل أنظمة التبريد من أهم عناصر تصميم هذه الأجهزة.
رغم استهلاكها الكبير للطاقة، إلا أن الحوسبة الإكساسكيل تُمثل حلاً اقتصاديًا على المدى الطويل، فبدلاً من بناء نماذج واختبارها فعليًا، يمكن الآن محاكاتها افتراضيًا خلال ساعات أو أيام، وهذا يوفر التكاليف ويُسرّع الابتكار.
لكن هذه الأنظمة ليست محصّنة ضد الأعطال، على العكس، نظرًا لعدد المكونات الهائل، فإن احتمال حدوث خلل في أي منها خلال ساعات مرتفع جدًا، لذا، تستخدم أنظمة الإكساسكيل تقنيات متقدمة للمراقبة والتشخيص المستمر، وتُجري نقاط تفتيش دورية لحفظ التقدم أثناء المعالجة، حتى لا تُفقد البيانات في حال حدوث خلل مفاجئ.
من المهم التمييز بين الحوسبة الإكساسكيل والحوسبة الكمومية، فبينما تعتمد الأولى على المعالجات التقليدية لتسريع العمليات الحسابية، تستند الثانية إلى قوانين ميكانيكا الكم وتستخدم البتات الكمومية (Qubits)، مما يمنحها القدرة على حل مسائل رياضية يصعب على أي حاسوب تقليدي التعامل معها.
ومع ذلك، لا تزال الحواسيب الكمومية في بداياتها، في حين أن الحوسبة الإكساسكيل تُستخدم حاليًا في تطبيقات عملية واسعة.
مع استمرار تطور تكنولوجيا المعالجات وفقًا لقانون “مور”، يتوقع بعض الخبراء أن نصل إلى مستوى الزيتاسكيل (Zettascale) – أي 10²¹ عملية حسابية في الثانية – خلال العقد القادم، ولكن هذا يعتمد على التغلب على التحديات التقنية والفيزيائية التي ترافق هذا التوسع الهائل في القدرات.
ولن يقتصر مستقبل الحوسبة على زيادة السرعة فقط، بل سيمتد ليشمل دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، والواقع الافتراضي، وحتى الحوسبة الكمومية ضمن أنظمة هجينة أكثر ذكاءً وكفاءة.
يمكنك أن تقرأ أيضًا:
الذكاء الاصطناعي VS إنترنت الأشياء.. أبرز الاختلافات