يُعتبر القلب من الأعضاء التي تعمل في جسد الإنسان بلا كلل، فهو العضو الأكثر نشاطًا وحيوية، ومع ذلك، فإنه يظل بشكل غامض ومثير للدهشة محصنًا ضد واحد من أكثر الأمراض فتكًا وهو “السرطان“. فبينما يمكن للأورام الخبيثة أن تضرب أي نسيج أو عضو تقريبًا، تظهر الدراسات أن حالات سرطان القلب الأولية نادرة للغاية، حيث تصيب حوالي 3 من كل 10,000 شخص فقط. هذا التباين الصارخ يثير التساؤلات حول سر هذه المقاومة الاستثنائية.
لفهم مناعة القلب، يجب أولًا فهم طبيعة العدو. ينشأ السرطان عندما تفقد الخلايا السيطرة على عملية الانقسام، وهي عملية حيوية يستخدمها الجسم للنمو وتعويض الأنسجة التالفة. كل خلية في أجسامنا تنقسم بمعدل مختلف؛ فخلايا الجلد تتجدد باستمرار، وخلايا العظام تمنحنا هيكلًا عظميًا جديدًا كل عقد تقريبًا. هذه العملية المعقدة تخضع لرقابة صارمة من خلال “نقاط تفتيش جزيئية” تضمن نسخ الحمض النووي (DNA) بدقة. لكن عند حدوث طفرات في الجينات المسؤولة عن هذه الرقابة، سواء بسبب عوامل خارجية كالإشعاع والمواد الكيميائية أو بسبب أخطاء عشوائية، تبدأ الخلايا في التكاثر بشكل فوضوي، مما يؤدي إلى تكون الأورام.
أسباب ندرة سرطان القلب
وتكمن الإجابة على لغز ندرة سرطان القلب في استراتيجية دفاعية مزدوجة تتمتع بها خلايا القلب. الدفاع الأول والأقوى هو “التقاعد المبكر” عن الانقسام. فعلى الرغم من أن القلب هو أول عضو يتكون في الجنين، إلا أن خلاياه العضلية تتوقف عن الانقسام بشكل شبه كامل بعد الولادة، وينخفض معدل انقسامها بشكل حاد بعد سن العشرين. في الواقع، يتم استبدال أقل من 50% من خلايا القلب طوال حياة الإنسان. هذا يعني أن غالبية الخلايا التي ولدت بها تستمر في العمل معك مدى الحياة. هذا المعدل المنخفض للغاية للانقسام يقلل بشكل كبير من فرص حدوث أخطاء قاتلة أثناء نسخ الحمض النووي، مما يجعل تكون سرطان القلب الأولي حدثًا مستبعدًا.
أما الدفاع الثاني هو الموقع المحمي. فالقلب يقع في عمق القفص الصدري، محميًا من العوامل المسرطنة الخارجية التي تتعرض لها الأعضاء الأخرى، مثل الأشعة فوق البنفسجية التي تضرب الجلد، أو المواد المستنشقة التي تصل إلى الرئة. ولكن لهذه المناعة ثمن؛ فهذا “التقاعد” عن الانقسام يعني أيضًا أن قدرة القلب على إصلاح نفسه بعد التلف، كنوبة قلبية، محدودة للغاية.
على الرغم من هذه الدفاعات القوية، لا يزال من الممكن العثور على أورام في القلب. في الغالبية العظمى من الحالات، لا يكون الورم سرطان قلب أوليًا، بل هو ورم “نقائل”، أي أن خلايا سرطانية هاجرت من عضو آخر مصاب، مثل الرئة أو الجلد، واستقرت في القلب. ورغم أن هذا الأمر نادر أيضًا، إلا أنه الطريقة الأكثر شيوعًا لوجود السرطان في القلب.
وفي الحالات النادرة للغاية التي يتطور فيها سرطان القلب الأولي، فإنه غالبًا ما يكون عدوانيًا وخطيرًا. وقد أظهرت الدراسات أن المرضى الذين يخضعون لتدخلات علاجية مكثفة مثل الجراحة والعلاج الكيميائي لعلاج سرطان القلب لديهم فرص أفضل في البقاء على قيد الحياة، مع أهمية الرعاية التلطيفية والطب التكاملي في تحسين جودة حياة المريض.
وتُعد دراسة الأسباب التي تجعل سرطان القلب نادرًا ليست مجرد فضول علمي، بل هي نافذة لفهم أعمق لبيولوجيا القلب، وقد تفتح آفاقًا لعلاجات ثورية. فالأبحاث التي تدرس سبب توقف خلايا القلب عن الانقسام تساعد العلماء على إيجاد طرق لتحفيزها على التجدد وإصلاح الضرر بعد النوبات القلبية. وبفضل التقنيات الحديثة، أصبح بإمكان الباحثين الآن إعادة برمجة خلايا الدم وتحويلها إلى خلايا قلبية، مما يسمح بدراسة أمراض القلب وتطوير علاجات جديدة، بما في ذلك علاجات سرطان القلب، في المختبر.