في خطوة لافتة تعكس مكانتها الدولية المتنامية في قطاع المياه، تم اختيار المملكة، اليوم السبت، من قبل لجنة الأمم المتحدة للمياه كنموذج عالمي رائد لاستدامة المياه باعتبارها تتبنى أفشل الممارسات في تسريع تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ولم يكن هذا التكريم، الذي أُعلن خلال المنتدى السياسي رفيع المستوى في نيويورك بتاريخ 22 يوليو 2025، مجرد إشادة، بل هو اعتراف دولي بنجاح رؤية استراتيجية متكاملة حولت أحد أكبر التحديات التي تواجه المملكة – ندرة المياه – إلى قصة نجاح ملهمة في مجال استدامة المياه. إن هذا الإنجاز هو تتويج لجهود جبارة أثمرت عن تصدر المملكة دول العالم في استيفاء أعلى معايير السلامة المائية والإنقاذ، مما يضعها في طليعة الدول التي تقود مستقبل الأمن المائي العالمي.
يكمن جوهر النجاح السعودي في “الاستراتيجية الوطنية للمياه 2030″، التي أُطلقت عام 2018 كخارطة طريق شاملة لمواجهة تحديات ندرة الموارد. وقد انطلقت هذه الاستراتيجية من رؤية واضحة تهدف إلى بناء “قطاع مياه مستدام ينمي الموارد المائية ويحافظ عليها ويوفر إمدادًا آمنًا وخدمات عالية الجودة”. ولتحقيق ذلك، تم تحديد خمسة أهداف استراتيجية رئيسية، تشمل ضمان الوصول المستمر للمياه، تحسين إدارة الطلب، تقديم خدمات عالية الجودة، المحافظة على الموارد، وضمان تنافسية القطاع ومساهمته في الاقتصاد الوطني.
وقد استند تنفيذ هذه الرؤية الطموحة إلى خمسة مرتكزات أساسية أثبتت فعاليتها: وجود إرادة والتزام سياسي رفيع المستوى، تصميم استراتيجيات واضحة ذات أهداف قابلة للقياس، إشراك فعال للقطاع الخاص كشريك في تقديم الخدمات، الاستفادة من الابتكار والبيانات لتعزيز الحوكمة، وبناء الشراكات والتعاون الدولي. هذا الإطار المحكم هو الذي ضمن تحقيق استدامة المياه بشكل فعلي على أرض الواقع.
لتحويل الاستراتيجية إلى واقع ملموس، اعتمدت المملكة على منظومة متكاملة لإدارة مواردها المائية، ترتكز على ثلاثة أبعاد رئيسية. البعد الأول هو الريادة العالمية في تحلية المياه؛ فبفضل موقعها الاستراتيجي، أصبحت المملكة أكبر منتج للمياه المحلاة في العالم، حيث توفر 70% من مياه الشرب عبر هذه التقنية. والبعد الثاني هو التعامل مع مياه الصرف الصحي كمورد ثمين وليس كعبء، حيث يتم معالجة كميات هائلة من المياه في 133 محطة منتشرة في أنحاء المملكة، ويُعاد استخدام أكثر من 22% منها، خاصة في القطاع الزراعي، مما يعزز مفهوم الاقتصاد الدائري ويدعم استدامة المياه.
أما البعد الثالث، فيتمثل في الاستثمار الضخم في البنية التحتية، حيث تم إطلاق أكثر من 1,429 مشروعًا جديدًا بقيمة تتجاوز 108 مليارات ريال، بهدف توسيع شبكات المياه والصرف الصحي لتصل إلى كافة المواطنين، مما يضمن جودة الحياة ويرفع كفاءة التوزيع.
لم تكتفِ المملكة بالعمل على جانب العرض، بل أولت اهتمامًا كبيرًا بإدارة الطلب وترسيخ ثقافة الترشيد. ويبرز هنا “المركز الوطني لكفاءة وترشيد المياه” (مائي)، الذي تم إنشاؤه لتوحيد الجهود ووضع المعايير اللازمة لزيادة كفاءة الاستهلاك. وقد أطلق المركز والجهات الشريكة مبادرات وطنية ناجحة، مثل برنامج “قطرة” الذي يهدف إلى خفض استهلاك الفرد اليومي من المياه بحلول عام 2030، ومبادرة “رشد” التي أثبتت أن معالجة التسربات الداخلية في المنازل وتركيب أدوات الترشيد يمكن أن يحقق وفرًا مائيًا يصل إلى 46%. هذه البرامج والحملات التوعوية المستمرة تساهم في بناء وعي مجتمعي بأهمية كل قطرة ماء، وهو أمر لا غنى عنه لتحقيق استدامة المياه على المدى الطويل.
ولم تعد جهود المملكة في تحقيق استدامة المياه حبيسة حدودها الوطنية، بل تحولت إلى مبادرات ذات تأثير عالمي. ويتجلى ذلك بوضوح في إعلان المملكة عن تأسيس “المنظمة العالمية للمياه” ومقرها الرياض، لتكون منصة دولية لتبادل الخبرات وتنسيق الجهود. وتؤكد مسيرة المملكة الحافلة، من عقد منتدى المياه السعودي الأول في 2019 إلى المشاركة الفاعلة في المنتدى العالمي للمياه في بالي 2024 واستضافة جناح المياه في قمة المناخ، على دورها الريادي والتزامها بمواجهة تحديات المياه العالمية.