في قلب صحاري المملكة وعلى سواحلها الممتدة، يكمن كنز طبيعي يُعرف بـ”الذهب الأبيض“، حيث يشهد قطاع صناعة الملح السعودي نهضة استثمارية لافتة، تقودها وزارة الصناعة والثروة المعدنية. فمن خلال إطلاق حزمة من الفرص الواعدة، التي تشمل رخص الكشف الجيولوجي والمصانع التشغيلية، يتحول الملح من مجرد مادة خام إلى محرك اقتصادي حيوي، بقيمة سوقية بلغت 3.7 مليار ريال حتى منتصف عام 2025.
يعمل حاليًا 27 مصنعًا وطنيًا على تحويل الملح الخام المستخرج من السبخات الطبيعية إلى منتجات متعددة الاستخدامات، تلبي احتياجات الأسواق المحلية وتصل إلى العالمية. وقد نجح الملح السعودي في عبور الحدود ليصل إلى 15 دولة حول العالم، من بينها الأردن، الإمارات، اليونان، ماليزيا، وإندونيسيا، بقيمة صادرات تجاوزت 18 مليون ريال خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية، مما يعكس الجودة العالية والقدرة التنافسية للمنتج السعودي.
وتتركز الثروة الملحية في المملكة بشكل كبير في السبخات الممتدة على طول ساحل الخليج العربي بالمنطقة الشرقية. وتُعد سبخة “رأس القرية” في محافظة بقيق النموذج الأبرز والأقدم لهذه الكنوز الطبيعية. هذه السبخة، التي تبعد عن البحر حوالي 4 كيلومترات، تشتهر بإنتاج ملح طبيعي عالي النقاوة يطفو على السطح، مع مخزون استراتيجي هائل يمتد لعمق 5 أمتار في باطن الأرض، ويقدر في بعض مواقعها بأكثر من 5 ملايين طن من الملح الخام المتجدد.
تجمع عملية استخراج الملح في المملكة بين الطرق الطبيعية والتقنيات الحديثة. ففي فصل الصيف، تعمل حرارة الشمس على تبخير مياه البحر ومياه الأمطار المتجمعة في السبخات، تاركة وراءها طبقات من الملح الخام. وتتضمن العملية الحديثة حفر خنادق بعمق يصل إلى 4 أمتار لاستخراج الترسبات الملحية، التي يتم بعد ذلك غسلها وتنقيتها داخل المنجم للتخلص من الشوائب.
وبعد الاستخراج، يُنقل الملح الخام ليخضع لعمليات تكرير متقدمة، حيث يتم تحويله إلى ملح صناعي عالي النقاوة بنسبة كلوريد صوديوم تفوق 99%، ليستخدم في الصناعات التحويلية والبتروكيميائية، أو إلى ملح طعام مكرر يدعم الصناعات الغذائية.
يؤكد خبراء القطاع على الأهمية الاستراتيجية لصناعة الملح. ويوضح المدير العام لشركة مسفر للتعدين، فهد القحطاني، أن المملكة تمتلك مخزونًا استراتيجيًا كبيرًا من الملح الذي يمثل مرتكزًا أساسيًا في مجالات صناعية وغذائية ودوائية متعددة، مشيرًا إلى أن رؤية 2030 أولت قطاع التعدين اهتمامًا بالغًا لدوره في دعم الاقتصاد الوطني.
من جانبه، يشير المتخصص في التعدين، المهندس أحمد العوض، إلى وجود نوعين أساسيين من الملح في المملكة: الأول هو الملح الصخري عالي النقاوة الناتج عن مياه البحر، والثاني هو ملح أقل جودة وكمية ينتج عن تبخير المياه الجوفية. ويؤكد أن اختيار مواقع المناجم يتم بناءً على مسح جيولوجي دقيق لضمان استدامة الموارد مع مراعاة الحفاظ على البيئة.