منذ العثور على جيفري إبستين ميتًا في زنزانته عام 2019، لم تتوقف علامات الاستفهام. فرغم الإعلان الرسمي بأن الوفاة جاءت نتيجة انتحار، تحول الملف إلى لغز مليء بالثغرات؛ من كاميرات معطلة وسجلات مزورة، إلى ثروة بلا تفسير وجزر خاصة ملفوفة بالغموض.
وبين تقارير رسمية تَعتبر ما حدث انتحارًا مؤكدًا، وملفات مسرّبة تكشف إهمالًا فادحًا، وحقائق مالية لا تفسير لها، وممتلكات محاطة بالسرية، تبدو قصة إبستين كما لو أنها بنيت خصيصًا لتظل لغزًا مفتوحًا.
كاميرات المراقبة في السجن
من بين أكثر النقاط إثارة للريبة في الملف، عطل كاميرات المراقبة في الجناح الذي كان جيفري إبستين محتجزًا فيه خلال الليلة التي انتهت بموته. ولم يكن الحديث عن انقطاع مفاجئ فقط؛ بل عن أعطال شُخصت مسبقًا ولم تُصلَح، وعن تسجيلات لم تُحفظ، وملفات لم يُعاد بناؤها. وعندما وصل محققو مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى المكان بعد ساعات طويلة من نقل الجثة، وجدوا زنزانة أُعيد ترتيبها، وأشياء نُقلت من مواضعها، ومساحة لم تُعامَل بدءًا كمسرح جريمة.
وكانت هذه التفاصيل وحدها كفيلة بتغذية نظريات المؤامرة. لكن ما زاد الأمر تعقيدًا أن السجلات تُظهر أن الضابطين المكلّفين بمراقبة جيفري إبستين تركاه طوال الليل دون تفتيش، ثم زورا التقارير لإخفاء ذلك. ولاحقًا، أقرّا بالتلاعب بالسجلات وتجنّبا السجن باتفاق قضائي، في خطوة اعتبرها خبراء "دليلًا على انهيار كامل في بروتوكولات السجون"، حتى لو لم تُثبت جريمة.
ثروة بلا مصدر واضح
إذا كان موت جيفري إبستين غامضًا، فإن حياته المالية وكيفية تكوين ثروته أشد غموضًا. فعلى الرغم من عدم امتلاكه نشاطًا تجاريًا ظاهرًا أو شركات تعمل في السوق بحجم ثروته، إلا أن حساباته تضخمت بشكل مذهل، وتدفقت إليه أموال من شخصيات بالغة النفوذ. وكان إبستين يقدم نفسه بوصفه "مستشارًا ماليًا للنخبة"، لكن الوثائق التي ظهرت بعد وفاته تُظهر غياب أي مسار واضح يبرر ثروته. لا ملفات مالية مكتملة، ولا شركات تشغيل، ولا أعمال تجارية تفسّر عقاراته وجزره الخاصة. وحتى الذين تعاملوا معه من كبار رجال المال لم يقدّموا روايات دقيقة عمّا كان يفعله خلف الستار.
وتبقى فكرة أن رجلًا بلا مؤهلات اقتصادية بارزة تمكن من بناء شبكة علاقات دولية بهذا الحجم، وجذب أموالًا بهذا الاتساع دون نشاط واضح، أحد أكثر عناصر القضية إرباكًا.
الجزر الخاصة.. عالم لا نعرف عنه الكثير
امتلك إبستين جزيرتين في البحر الكاريبي، كانتا خارج الرقابة تقريبًا، تُنقل إليهما مجموعات صغيرة من الضيوف بطائرته الخاصة. وكانت الجزر محاطة بإجراءات أمنية صارمة، وتنتشر فيها مبانٍ معزولة ومسارات لا تخضع لرقابة رسمية. وتُظهر الصور الجوية التي نُشرت خلال التحقيقات منشآت غريبة لا تعرف السلطات وظيفتها بدقة. ورغم أن الجزء الأكبر من روايات "ما كان يجري على الجزر" ظل في إطار الشهادات غير المؤكدة، فإن الغموض المستمر بشأن أنشطة تلك المواقع ساعد على ترسيخ الاعتقاد بأن الكثير من أسرار جيفري إبستين الحقيقية لم تُكشف بعد.
الطائرة الخاصة "لوليتا إكسبريس"
من بين أكثر عناصر القضية إثارة للجدل طائرة جيفري إبستين الشهيرة، التي ظهرت في السجلات تحت اسم غير رسمي هو "لوليتا إكسبريس". هذه الطائرة كانت تتحرك بين نيويورك والجزر الخاصة ولندن وباريس، وكانت تحوي قوائم ضيوف تضم شخصيات سياسية وترفيهية ومالية بارزة. ولكنّ المشكلة لا تكمن في الأسماء، بل في طبيعة تلك الرحلات. فكثير من التحركات لم تُسجل بالكامل، وبعض الرحلات لم يُعرف من كان على متنها، فيما لم يقدّم طاقم الطائرة في أي مرحلة شهادات تفصيلية لما كان يجري خلالها.
وحتى اليوم، تبقى الطائرة ملفًا ناقصًا، ما بين قوائم ركاب غير مكتملة، إقلاع وهبوط في مطارات بعيدة، وتحركات لم تُفسّر رسميًا.
فوضى الزنزانة ومشهد غير منطقي
بعد وصول الشرطة إلى زنزانة إبستين، ظهر مشهد غير منطقي تضمن أكوام ملابس متناثرة، وأدوات علاجية في أماكن مختلفة بين صورة وأخرى، وقطع قماش مربوطة بطريقة لا تتطابق مع الرواية الرسمية، وأشياء نُقلت من مواضعها قبل وصول فريق التحقيق. والأغرب أن المحققين لم يتمكنوا من تحديد أي شريط من أغطية السرير كان حول عنقه عند وفاته، لأن الأدلة نفسها لم تُعزل منذ اللحظة الأولى. وكان ذلك كافيًا ليصف خبراء أدلة جنائية المشهد بأنه "غير احترافي" وأنه "أشبه بفوضى تمنع الوصول إلى استنتاج يقيني".
حالة نفسية متدهورة دون رقابة كافية
كسفت الوثائق التي حصلت عليها وسائل الإعلام لاحقًا أن جيفري إبستين كان يعيش انهيارًا نفسيًا تدريجيًا. إذ كان يشتكي من ضجيج السجن، ومن مرحاض مكسور، ومن انقطاع نومه بسبب صعوبات التنفس. ورغم وضعه تحت مراقبة انتحار قبل أيام، سُمح له بالبقاء منفردًا، واستخدام الهاتف بلا رقابة، والحصول على ملاءات إضافية، في ظروف تُعد انتهاكًا مباشرًا لبروتوكولات حماية السجناء.
حتى المكالمة الأخيرة التي أجراها، وأخبر فيها موظفًا أنه يتحدث مع والدته المتوفاة منذ سنوات طويلة، أصبحت من بين اللحظات التي لا تجد تفسيرًا نهائيًا.
نهاية بلا نهاية
رغم كل ما قيل رسميًا عن "انتحار واضح"، فإن ثغرات الملف تُبقي الباب مفتوحًا. فكاميرات لا تعمل، وسجلات مزورة، وأدلة نُقلت، وثروة بلا مصادر معروفة، وممتلكات يُجهل ما كان يجري فيها، كلها عناصر تجعل القضية أكثر غرابة من أن تُختتم بإجابة واحدة. فالقضية، بكل تفاصيلها، لا تبدو مجرد ملف جنائي، بل مرآة تعكس كيف يمكن لثغرة صغيرة في النظام أن تتحول إلى أسطورة مستمرة، وأن تجعل رجلاً، بعد موته، أكثر حضورًا مما كان عليه في حياته.














