صعّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من لهجته تجاه هيئة الإذاعة البريطانية BBC، مهددًا برفع دعوى قضائية ضخمة يطالب فيها بتعويض قدره مليار دولار (حوالي 759 مليون جنيه إسترليني). وجاء هذا بعد اتهامه المؤسسة الإعلامية ببث فيلم وثائقي تضمّن – بحسب زعمه – “ادعاءات كاذبة ومسيئة ومضللة” بحقه.
وفي رسالة رسمية وجّهها محاموه إلى إدارة بي بي سي، طالبوا الهيئة بثلاثة إجراءات محددة وهي إصدار اعتذار علني ورسمي، وسحب الفيلم الوثائقي بشكل كامل مع توضيح عادل للوقائع، إضافة إلى تعويض مالي يناسب حجم الضرر الذي تعرض له الرئيس.
وجاءت هذه التطورات عقب تسريب مذكرة كتبها مستشار سابق في لجنة معايير التحرير لدى الهيئة، أشارت إلى أن برنامج “بانوراما” أجرى تعديلات على تسجيل خطاب ألقاه ترامب عقب انتخابات 2020، بطريقة أظهرت حديثه وكأنه دعوة صريحة إلى العنف خلال أحداث اقتحام مبنى الكابيتول في يناير 2021. وعُرض الفيلم الذي أثار الجدل في بريطانيا قبل أسابيع قليلة من انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2024.
اعتذارات في بي بي سي وجدال قانوني
قال رئيس هيئة الإذاعة البريطانية، سمير شاه، إن المؤسسة أخطأت في تقديرها عند السماح بعرض الوثائقي بالشكل الذي ظهر به، معترفًا بأن عملية المونتاج أوحت بأنه “نداء مباشر للفعل” من ترامب. أما المدير العام المستقيل تيم ديفي فقد أقرّ بوجود “خلل تحريري واضح” في إنتاج الفيلم. ورغم ذلك، يؤكد خبراء الإعلام والقانون في الولايات المتحدة أن ترامب سيصطدم بعقبات كبيرة إذا ما حاول الحصول على تعويض بهذه الضخامة، خاصة أن قوانين التشهير الأمريكية تمنح وسائل الإعلام حماية واسعة بموجب مبدأ حرية الصحافة.
وقد أعلن ترامب أنه ينوي تقديم الدعوى – إذا أقدم على ذلك – أمام محكمة في ولاية فلوريدا، وليس في بريطانيا.
خلفية الخلاف
بدأت الأزمة حين نشرت صحيفة التلغراف البريطانية وثائق مسربة تنتقد الطريقة التي تم بها تحرير الخطاب في الفيلم الوثائقي. ففي كلمته الأصلية، قال ترامب: “سنسير نحو مبنى الكابيتول لتشجيع أعضاء الكونغرس على التحرك بشجاعة”. لكن النسخة المعروضة في البرنامج أظهرت المقطع وكأنه يقول: “سنسير إلى الكابيتول.. وسنقاتل بقوة”. وقد ألقى ترامب خطابه آنذاك في منطقة “إليبس” قرب البيت الأبيض، بينما كان الكونغرس يستعد للتصديق على فوز جو بايدن في انتخابات 2020.
وبعد دقائق من نهاية كلمة ترامب، اقتحم أنصاره مبنى الكابيتول، ما دفع مجلس النواب لاحقًا إلى التصويت لعزله بتهمة “التحريض على التمرد”، قبل أن يبرئه مجلس الشيوخ. ووصف ترامب خطابه لاحقًا بأنه “كان مثاليًا، بينما هاجم البيت الأبيض التقرير المنشور في التلغراف، معتبرًا أن “بي بي سي نشرت أخبارًا كاذبة بنسبة مئة بالمئة”.
ومع ازدياد الضغوط واستقالة تيم ديفي والمدير التنفيذي للأخبار، اشتد التهديد القانوني. وأكد فريق ترامب في خطابه القانوني أن بي بي سي “تلاعبت عمدًا” بمقاطع الخطاب عبر دمج أجزاء منفصلة لتغيير معناه، وهو ما ألحق – وفق البيان – “ضررًا ماديًا ومعنويًا بالغًا” بالرئيس. وفي مقابلة لاحقة مع قناة “فوكس نيوز”، شدد ترامب على أنه “ملتزم بالمضي قدمًا في الدعوى”، واصفًا الفيلم بأنه “تحريف متعمد وغير نزيه”.
العقبات القانونية أمام ترامب
يتمتع الإعلام الأمريكي بحماية قوية بفضل التعديل الأول للدستور، الذي يضمن حرية التعبير والنشر. كما رسّخ حكم المحكمة العليا في قضية نيويورك تايمز ضد سوليفان عام 1964 مبدأ “النية الخبيثة الفعلية”، أي أن الشخصيات العامة يجب أن تثبت أن الجهة الإعلامية كانت تعلم أن ما نشرته كاذب أو تجاهلت الحقيقة عمدًا. ولكي يربح ترامب الدعوى، سيكون عليه إثبات ثلاثة أمور: أن ما بثته بي بي سي كان غير صحيح ومسيئًا لسمعته، وأنه تضرر فعليًا بسبب هذا المحتوى، وأن الهيئة تصرفت بسوء نية واضحة.
ويرى جورج فريمان، المدير التنفيذي لمركز موارد القانون الإعلامي في نيويورك، أن هذه الشروط “تمثل عقبات جوهرية لأي مدعٍ في مثل هذه القضايا”. لكن الأستاذ بيرت نيوبورن من جامعة نيويورك يرى أن لدى ترامب أساسًا قانونيًا ما، إذ إن تعديل التسجيل “غيّر المعنى المقصود”، معتبراً أن ذلك لا يمكن اعتباره “خطأ بريئًا”. لكنه استبعد أن تُمنح له تعويضات ضخمة.
وتُحدد القوانين البريطانية مدة سنة واحدة لرفع دعاوى التشهير، وهي مدة انقضت بالفعل لأن الفيلم عُرض في أكتوبر 2024. أما في فلوريدا، حيث ينوي ترامب التقدم بالدعوى، فالمهلة تمتد إلى عامين، ما يمنحه فسحة زمنية أكبر، لكنها تُلزم المدعي بمعيار قانوني أكثر صرامة. ولكي تنظر محكمة فلوريدا في الدعوى، سيتعين على ترامب إثبات أن الفيلم الوثائقي عُرض أو كان متاحًا داخل الولاية، وهو أمر لم يتأكد حتى الآن. ويقول نيوبورن إن بي بي سي يمكنها الدفع بعدم اختصاص المحكمة بحجة أن “المحتوى لم يُعرض لجمهور فلوريدا”.
مهلة نهائية وتحذير من التصعيد
اختتم محامو ترامب رسالتهم بالقول إن بي بي سي أمامها مهلة حتى 14 نوفمبر لتقديم اعتذار رسمي وتسوية القضية، وإلا “سيضطر الرئيس إلى اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للمطالبة بحقوقه والتعويض الذي لا يقل عن مليار دولار”. لكن أستاذة القانون في جامعة فلوريدا، ليريسا ليدسكي، ترى أن المطالبة بهذا المبلغ “غير واقعية”، مشيرة إلى أن ترامب “حقق مكاسب مالية وسياسية لاحقة، ما يصعّب إثبات وقوع ضرر بقيمة مليار دولار”.
ويُعتبر ترامب ليس غريبًا عن ساحات القضاء ضد المؤسسات الإعلامية. ففي عام 2025، توصّل إلى تسوية بقيمة 16 مليون دولار مع شركة “باراماونت”، المالكة لشبكة “سي بي إس”، بعد أن اتهمها بتعديل مقابلة مع المرشحة الرئاسية آنذاك كامالا هاريس بطريقة منحازة. كما حصل على 15 مليون دولار من شبكة “إيه بي سي نيوز” بعد تصريحات غير دقيقة من مذيعها جورج ستيفانوبولوس حول إدانته بتهمة الاغتصاب.
كما رفع دعوى ضد صحيفة نيويورك تايمز مطالبًا بتعويض قدره 15 مليار دولار بسبب مقالات اعتبرها “مهينة وغير مهنية” خلال حملته الانتخابية عام 2024، قبل أن تُرفض الدعوى لاحقًا لعدم استيفائها المتطلبات القانونية، مع السماح له بإعادة تقديم شكوى مختصرة. ويقول سيث ستيرن، مدير المناصرة في “مؤسسة حرية الصحافة”، إن هذه الدعاوى الكثيرة تُستخدم من قبل ترامب “كوسيلة ضغط سياسية أكثر من كونها مسعى قانونيًا بحتًا”. ويضيف: “بالنسبة له، الخسارة في المحكمة ليست مشكلة؛ المهم هو التأثير على الإعلام وردع منتقديه”.
اقرأ أيضًا:
تحريف خطاب ترامب يُطيح بقيادات BBC
الأمريكيون يوجّهون “رسالة رفض” لسياسات ترامب
لماذا قد تُعمق الانتخابات الأمريكية الانقسام السياسي في البلاد؟













