
لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الحديثة، يجد رئيس سابق نفسه خلف القضبان. فقد بدأ نيكولا ساركوزي تنفيذ عقوبة السجن لخمس سنوات، بعد إدانته بالتورط في تمويل غير قانوني لحملته الانتخابية عام 2007 بأموال قادمة من نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي.
لم تحدث هذه السابقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حين أُدين فيليب بيتان، المتعاون مع النازيين، عام 1945. واليوم، يعيد التاريخ نفسه بصورة مختلفة، لكن بظلال سياسية وقضائية ثقيلة.
عند وصوله إلى سجن “لا سانتيه” الباريسي، وهو أحد أقدم السجون في فرنسا ويقع في منطقة مونبارناس، كان ساركوزي محاطًا بإجراءات أمنية مشددة. فقد أغلقت الشرطة محيط الشوارع، بينما اصطف أنصاره أمام منزله في الدائرة السادسة عشرة يصفقون ويهتفون باسمه، في مشهد جمع بين الحزن والتحدي. زوجته كارلا بروني أمسكت بيده في وداع مؤثر، فيما كتب ابنه بيير رسالة مقتضبة قال فيها: “كل الحب، ولا شيء غيره”.
دخل الرئيس الأسبق السجن في التاسعة وأربعين دقيقة صباحًا، ليُخصّص له جناح خاص بالعزل لحمايته من السجناء الآخرين، معظمهم من المدانين في قضايا إرهاب أو تجارة مخدرات. وقال محاميه كريستوف إنغرين إن موكله لن يطلب الإفراج المؤقت، مؤكدًا أن “ساركوزي مستعد لتحمل كل تبعات الحكم رغم قناعته ببراءته”. وفي رسالة نُشرت عبر منصة “إكس”، أكد ساركوزي أنه يثق في أن الحقيقة ستنتصر في النهاية، مضيفًا: “لا أشعر بالأسف على نفسي، بل على فرنسا التي سمحت للانتقام بأن يحكمها.”
تبلغ مساحة زنزانة ساركوزي في الطابق العلوي من جناح العزل نحو 11 مترًا مربعًا فقط. تضم سريرًا بسيطًا، ومكتبًا صغيرًا، وموقدًا كهربائيًا، وثلاجة صغيرة، وتلفزيونًا يدفع لقاء استخدامه 14 يورو شهريًا. كما يوجد داخل الزنزانة مرحاض ودش، ما يمنحه قدرًا محدودًا من الخصوصية. ويُسمح له بقضاء ساعة واحدة يوميًا في فناء منفصل لممارسة الرياضة، دون أي احتكاك بسجناء آخرين.
وتصف فلافي راولت، وهي مسؤولة سابقة في إدارة السجن، هذه الظروف بأنها “عزلة تامة قد تكون قاسية نفسيًا”، مؤكدة أن “السجين في هذا الجناح يعيش في صمت شبه كامل، ولا يتحدث إلا مع الحراس أو موظفي السجن”. ورغم القيود، يُسمح للرئيس الأسبق باستقبال الزيارات العائلية، وإجراء مكالمات هاتفية، ومراسلة العالم الخارجي.
كانت زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه للقاء ساركوزي قبل أيام من تنفيذ الحكم أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية الفرنسية. وقد علّق ماكرون على الأمر قائلًا: “على الصعيد الإنساني، من الطبيعي أن ألتقي أحد أسلافي، لكنني لن أتدخل في قرارات القضاء”. ومن جانبه، أكد وزير العدل جيرالد دارمانان أنه سيزور السجن بنفسه للاطمئنان على ظروف احتجاز الرئيس السابق وضمان سلامته.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها ساركوزي حكمًا بالسجن. ففي عام 2023، وُضع تحت المراقبة الإلكترونية بعد إدانته بمحاولة رشوة أحد القضاة، كما ينتظر صدور قرار جديد في قضية أخرى تتعلق بتمويل غير قانوني لحملته الانتخابية في إطار ما يُعرف بـ”قضية بيغماليون”. ورغم كل تلك المحاكمات، يواصل ساركوزي نفي أي علاقة له بالأموال الليبية، مؤكدًا أنه لم يتلق شخصيًا أي مبالغ، وأن القضية “تستند إلى شبهات سياسية أكثر من أدلة قضائية”.
وفي تصريح صحفي قبل دخوله السجن، قال الرئيس الفرنسي السابق إنه سيتعامل مع محنته “برأس مرفوع”، وإنه سيقضي وقته في القراءة والتأمل. وقد اختار كتابين يصطحبهما معه إلى الزنزانة: “حياة المسيح” لجان كريستيان بيتيتفيلس، و”الكونت دي مونت كريستو” لألكسندر دوما، وهي رواية عن رجل سُجن ظلمًا ثم خرج لينتقم ممن تسببوا في معاناته.
اقرأ أيضًا:
ساركوزي خلف القضبان.. أين سيقضي الرئيس الفرنسي الأسبق عقوبة السجن؟
هل صفعت “بريجيت” زوجها الرئيس الفرنسي “ماكرون” أمام الكاميرات؟
ماذا تعني “زيارة الدولة” التي يجريها الرئيس الفرنسي إلى المملكة؟