يمثل الموقف الفرنسي من القضية الفلسطينية قصة طويلة من التحولات والتقلبات السياسية من كونها الحليف الأقرب لإسرائيل في بدايات الجمهورية الخامسة، إلى أن أصبحت اليوم أول قوة غربية كبرى تعلن عزمها على الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. وقد وصلت هذه الرحلة الممتدة على مدى سبعة عقود إلى ذروتها بإعلان الرئيس إيمانويل ماكرون أن فرنسا ستقدم هذا الاعتراف التاريخي في سبتمبر المقبل.
ووصف ماكرون هذه الخطوة بأنها ليست مجرد قرار سياسي، بل هي وفاءٌ لالتزام بلاده التاريخي بالسلام، و”ضرورة أخلاقية وسياسية” في الوقت الراهن. هذا القرار لا يمثل فقط موقفًا جديدًا، بل هو تتويج لمسار دبلوماسي معقد عكس تغير التحالفات والأولويات الفرنسية في الشرق الأوسط على مر السنين.
لم تكن سياسة فرنسا تجاه القضية الفلسطينية ثابتة على الدوام. فمع بداية الجمهورية الخامسة في عام 1958، كان الجنرال شارل ديغول يعتبر من أقرب الحلفاء لإسرائيل. لكن هذا التحالف شهد تصدعًا كبيرًا بعد حرب الأيام الستة عام 1967، حيث قام ديغول بتغيير جذري في موقف بلاده، وفرض حظرًا على تصدير السلاح إلى إسرائيل، في خطوة كانت بمثابة الشرارة الأولى لمسار فرنسي أكثر استقلالية.
وبعد ديغول، سار الرئيس جورج بومبيدو على نهج متحفظ ولكنه واضح، حيث شدد على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. ثم جاء الرئيس فاليري جيسكار ديستان ليتخذ خطوة أكثر جرأة في دعم فلسطين، حيث أيد فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس، وساهم بشكل محوري في إصدار “إعلان البندقية” عام 1980، الذي أقر لأول مرة بحق الفلسطينيين في الحكم الذاتي.
شهدت فترة الثمانينيات قفزة نوعية في الموقف الفرنسي، عندما صدم الرئيس فرانسوا ميتران إسرائيل بتصريحه الذي كان الأول من نوعه لزعيم غربي، والذي أعلن فيه دعمه لمبدأ قيام دولة فلسطينية. هذا الموقف تعزز وتطور في عهد الرئيس جاك شيراك، الذي اشتهر بتأييده القوي للحق الفلسطيني، حتى أصبحت فرنسا في عهده الدولة الغربية الكبرى الوحيدة التي تدعم صراحة قيام دولة فلسطين.
إلا أن هذا المسار التصاعدي شهد فترة من التراجع والتردد في عهد الرئيسين نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. فقد انحاز ساركوزي بشكل أوضح إلى جانب إسرائيل، بينما رفض هولاند فكرة الاعتراف المنفرد بالدولة الفلسطينية، معيدًا السياسة الفرنسية إلى مربع الانتظار والدعوة للمفاوضات فقط.
أنهى الرئيس إيمانويل ماكرون عقودًا من الترقب والتردد بقراره الأخير. فبعد سنوات من الاكتفاء بالدعوة إلى “حل الدولتين”، انتقل ماكرون الآن إلى مرحلة الفعل، معلنًا أن اعتراف فرنسا بدولة فلسطين سيصبح حقيقة واقعة. هذه الخطوة لا تمثل فقط تتويجًا لتاريخ طويل من الدبلوماسية الفرنسية تجاه القضية الفلسطينية، بل تضع فرنسا مجددًا في موقع قيادي، وتفتح الباب أمام بقية القوى الغربية لتحذو حذوها.