الجذور الخفية للبث الرقمي.. كيف بدأت الفكرة قبل عصر الإنترنت؟

ديسمبر ١٨, ٢٠٢٥

شارك المقال

الجذور الخفية للبث الرقمي.. كيف بدأت الفكرة قبل عصر الإنترنت؟

قبل ظهور الإنترنت بوقت طويل، سعى البشر إلى ابتكار وسائل تسمح بالوصول إلى المحتوى في الوقت الذي يرغبون فيه. تجلت هذه الرغبة في عدد من الخدمات والتقنيات التاريخية، التي استخدمت شبكات الهاتف وأدوات بدائية لنقل الصوت والموسيقى والعروض مباشرة إلى المستخدمين. وكانت هذه التجارب المبكرة نموذجًا أوليًا لمفهوم "المحتوى عند الطلب"، وهو نفس المبدأ الذي تقوم عليه اليوم خدمات البث الحديثة مثل Netflix وSpotify، لكن عبر تقنيات بدائية سبقت عصر البث الرقمي بمئات السنين.

وفي وقت لم يكن فيه الراديو قد وُلد بعد، قدّمت باريس تجربة غير مسبوقة في إيصال الفن إلى الجمهور عن بُعد. فقد ظهر Théâtrophone، أو "هاتف المسرح"، كأول نظام معروف لبث العروض الصوتية عبر الهاتف. تكمن أهمية Théâtrophone في كونه أحد أقدم النماذج المبكرة لفكرة "بث المحتوى"، رغم اعتماده على الهاتف بدل الإنترنت، إلا أنها تجربة أثبتت أن رغبة الجمهور في الوصول إلى المحتوى في أي مكان وزمان سبقت العصر الرقمي بزمن طويل.

تجربة البث الصوتي عن بُعد

في عام 1881، قدّم المخترع الفرنسي كليمان آدر تجربة غير مسبوقة في معرض باريس الدولي للكهرباء، حيث أتاح للزوار الاستماع مباشرة إلى عروض أوبرا تُقدَّم على مسارح بعيدة، نُقلت أصواتها عبر أسلاك الهاتف لمسافة تصل إلى كيلومترين تقريبًا.

استمع الجمهور إلى الأصوات بصوت أحادي، إذ لم تكن تقنية الصوت المجسم قد ظهرت بعد، لكنها أبهرت الحاضرين بواقعيتها. هذه التجربة، عُرفت لاحقًا باسم "Théâtrophone"، والتي شكّلت خطوة رائدة نحو البث الصوتي عن بُعد وتقديم المحتوى حسب الطلب قبل أكثر من قرن من ظهور الإنترنت.

مع تزايد الاهتمام بفكرة البث الصوتي عن بُعد، تحوّل ابتكار كليمان آدر إلى مشروع تجاري، فأطلقت شركة Compagnie du Théâtrophone الخدمة رسميًا في باريس عام 1890، لتصل إلى المنازل والفنادق والمقاهي، فسرعان ما بُنيت غرف استماع دائمة في بهو مسرح ثياتر دي نوفوتيه، وتم تركيب أجهزة استقبال منزلية وأخرى تعمل بالعملات المعدنية في المقاهي والفنادق، تتيح للمشتركين دفع اشتراك سنوي للاستماع إلى عروض كاملة، أو دفع رسوم إضافية لأمسية محددة.

بحلول عام 1892، كان هناك نحو مئة جهاز استقبال عام في باريس، تقدّم خيارات من خمسة مسارح، مع إمكانية الاستماع إلى عزف بيانو حي خلال فترات الاستراحة، قبل أن تُستبدل لاحقًا بالتسجيلات الصوتية، لتصبح خطوة رائدة نحو مفهوم البث الصوتي حسب الطلب.

توسعت الفكرة دوليًا، حيث استُخدمت أجهزة مماثلة في البرتغال وبلجيكا وأماكن أخرى لمتابعة العروض عن بُعد، غالبًا عبر خطوط هاتف أحادية. وفي لندن، أسست شركة إلكتروفون خدمات بث صوتي مباشر إلى المسارح والكنائس، مع اشتراكات سنوية وجلسات استماع قصيرة، مزودة بسماعات رأس مزدوجة مصممة للحفاظ على تسريحات الشعر وتقليل الضغط.

رغم الابتكار الكبير، بقيت خدمات "ثياتروفون" محدودة الانتشار مقارنة بحجم شبكة الهاتف آنذاك. ففي أمريكا، كان لدى شركة بيل للاتصالات نحو ثلاثة آلاف هاتف بحلول نهاية عام 1877، بينما لم يكن لدى شبكة لندن سوى 3,800 مشترك في 1885، معظمهم من الشركات، وارتفع العدد إلى نحو 65,000 بحلول عام 1903. في هذا السياق، كان مشتركو إلكتروفون البالغ عددهم 600 في عام 1906 يمثلون نسبة ضئيلة من النخبة، حيث كانت الخدمات غالبًا متاحة للنخبة أو لأغراض خاصة، مثل المستشفيات أو العائلات الثرية.

حاولت بعض المدن الأمريكية تكرار الفكرة، مثل خدمة "تيلموسيتشي" في ويلمنغتون بديلاوير عام 1909، حيث كان المشتركون يستأجرون أجهزة استقبال ويستمعون إلى تسجيلات فونوغراف عند الطلب، لكن المشروع ظل محدود النطاق بسبب ضعف البنية التحتية والطلب على الأخبار المباشرة.

الفونوغراف.. تجربة سمعية حسب الطلب

الفونوغراف هو جهاز ميكانيكي أولي لتسجيل وتشغيل الصوت، اخترعه توماس إديسون عام 1877، وكان له تأثير بالغ على عالم الموسيقى والبث الصوتي، حيث مهد الطريق لتسجيل الأغاني والخطب والعروض الموسيقية. في أوائل القرن العشرين، استخدم جهاز الفونوغراف في خدمات Théâtrophone وإلكتروفون لنقل الموسيقى والعروض المسرحية مباشرة إلى المنازل والمقاهي، مقدّمًا للجمهور تجربة سمعية شبه حسب الطلب قبل ظهور الراديو والإنترنت.

وكان الفونوغراف أول جهاز يمكنه تسجيل الأصوات وتشغيلها لاحقًا، وليس مجرد نقلها مباشرة كما يفعل الهاتف، ويعتمد الفونوغراف على أسطوانة ملفوفة بالقصدير أو الشمع، تُسجل عليها الاهتزازات الصوتية.

المكتبات الصوتية و موسيقى الخلفية (Muzak)

ابتكر الجنرال جورج سكواير في أوائل عشرينيات القرن العشرين طريقة لبث الموسيقى عبر الأسلاك الكهربائية باستخدام أجهزة الفونوغراف، قبل أن تتحول الفكرة إلى خدمة اشتراك موسيقية. وفي عام 1934، أُنشئت شركة Muzak، لكنها واجهت تحديًا قانونيًا إذ كانت الموسيقى المتاحة للبث مرخصة للاستخدام الشخصي فقط. لحل هذه المشكلة، تولى الموسيقي بن سيلفين إنتاج مكتبة موسيقية ضخمة تضم آلاف التسجيلات لأبرز الفنانين في ذلك الوقت.

بحلول الأربعينيات، ضمت مكتبةMuzak أكثر من 7,500 تسجيل متاح للبث في المنازل والشركات. وتوسعت الخدمة لتشمل المصاعد، والمطاعم، والفنادق، والمصانع، هذا الشكل، أصبحت هذه الخدمات الصوتية المبكرة نموذجًا مبكرًا لمفهوم البث حسب الطلب.

الراديو والبث الإذاعي الجماهيري

بعد مرحلة المكتبات الصوتية وخدمات مثل Muzak، ظهر الراديو كوسيلة بث جماهيرية واسعة الانتشار في عشرينيات القرن العشرين مع تقدم التكنولوجيا اللاسلكية. أتاح الراديو لملايين الناس الاستماع إلى الأخبار والموسيقى والبرامج من منازلهم باستخدام أجهزة استقبال، ما جعله وسيلة اتصال جماهيري وثقافي رئيسية، وتطور تدريجيًا ليصبح منتجًا استهلاكيًا أشمل وأكثر انتشارًا.

نظام OTT.. تطور حديث لمفهوم البث حسب الطلب

بعد عقود من التجارب الأولى في البث الصوتي والموسيقي، مثل الفونوغراف وThéâtrophone، ظهر نظام OTT ليحوّل تجربة المحتوى حسب الطلب إلى عالم رقمي متكامل. يتيح هذا النظام للمستخدمين الوصول إلى أي محتوى في أي وقت ومن أي جهاز متصل بالإنترنت، سواء كان هاتفًا ذكيًا، حاسوبًا، أو تلفازًا ذكيًا، متجاوزًا بذلك الشبكات التقليدية مثل الكابل أو الأقمار الصناعية.

ويأتي OTT، أو Over-The-Top، كحل عصري لتوصيل الفيديو والصوت والتطبيقات الرقمية مباشرة إلى المستهلك، دون الحاجة إلى مزود خدمة تقليدي للبث التلفزيوني أو الراديو، ما يجعله قلب العصر الرقمي للبث حسب الطلب..

اقرأ أيضًأ :

لماذا أجلت ميتا إطلاق نظارتها Phoenix للواقع المختلط إلى 2027؟
3 أشياء تمنع سام ألتمان مؤسس "OpenAI" من النوم

روبوتات الذكاء الاصطناعي في الصحة النفسية تنتهك المبادئ الأخلاقية

الأكثر مشاهدة

أحصل على أهم الأخبار مباشرةً في بريدك


logo alelm

© العلم. جميع الحقوق محفوظة

Powered by Trend'Tech