مع اقتراب موعد الانقلاب الصيفي يوم السبت المقبل، الذي يمثل أطول يوم في السنة في نصف الكرة الشمالي، يستعد العالم لإحياء واحدة من أقدم الظواهر التي احتفت بها البشرية عبر آلاف السنين وهي “احتفالات الشمس”.
فمنذ فجر التاريخ، نظرت الثقافات إلى هذه اللحظة الفلكية بعين التقدير والتبجيل، مما أدى إلى ولادة تقاليد غنية ومتنوعة لا يزال الكثير منها يُمارس حتى اليوم، وخلال احتفالات الشمس تمتزج فيها الطقوس الوثنية القديمة بالتعبيرات الثقافية الحديثة في جميع أنحاء العالم.
تلعب النار دورًا محوريًا في العديد من احتفالات الشمس الأوروبية، حيث ترمز إلى القوة والتطهير والضوء. وفي السويد، يُعتبر مهرجان منتصف الصيف (Midsommar) مناسبة وطنية كبرى، يجتمع فيها السويديون لنسج أكاليل الزهور، ونصب “عمود مايو” المزخرف، وإشعال النيران الضخمة، والاستمتاع بالولائم التقليدية. ولا تقتصر هذه التقاليد على السويد، بل تمتد إلى دول إسكندنافية ودول البلطيق الأخرى التي تحتفي بعودة الشمس بعد شتاء طويل ومظلم.
وفي النمسا، تُعرف هذه الليلة بـ “Sonnwendfeuer” (نار الانقلاب الشمسي)، حيث تُضاء مشاعل ونيران ضخمة بطريقة مبهرة عبر سلاسل جبال تيرول، في تقليد يعود إلى حقب ما قبل المسيحية. وبالمثل، ترتبط احتفالات الشمس في إسبانيا بـعيد القديس يوحنا (Feast of Sant Joan)، وهو عيد مسيحي يتزامن مع الانقلاب الصيفي، وتُقام فيه الاحتفالات التي تتضمن إشعال النيران والألعاب النارية والمسيرات في العديد من المدن.
في بعض أنحاء العالم، تُعد احتفالات الشمس فرصة لإحياء تقاليد ثقافات قديمة كانت تعبد الشمس أو تمتلك فهمًا فلكيًا عميقًا. وأشهر مثال على ذلك هو التجمع السنوي لآلاف الأشخاص في موقع ستونهنج الأثري في المملكة المتحدة. ففي فجر يوم الانقلاب الصيفي، يقف المحتفلون لمشاهدة اللحظة السحرية التي تشرق فيها الشمس وتصطف بشكل مثالي فوق “حجر الكعب”، وهو ما يؤكد أن هذا الصرح الحجري القديم قد بُني ليكون مرصدًا فلكيًا.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في نصف الكرة الجنوبي حيث يمثل هذا التوقيت الانقلاب الشتوي (أقصر يوم في السنة)، يتم إحياء مهرجان “إنتي رايمي” (Inti Raymi) في دول مثل بيرو والإكوادور والأرجنتين. هذا المهرجان هو تكريم لتقاليد حضارة الإنكا القديمة، التي كانت تحتفل بإله الشمس “إنتي”، ويتم اليوم إحياؤه عبر مسيرات ضخمة وإعادة تمثيل للطقوس التاريخية بأزياء تقليدية.
لم تقتصر احتفالات الشمس على الطقوس القديمة، بل اتخذت أشكالاً حديثة وفريدة. ففي مدينة فيربانكس بولاية ألاسكا، وهي منطقة أخرى محرومة من الشمس في الشتاء، يُقام “مهرجان شمس منتصف الليل” (Midnight Sun Festival)، وهو احتفال ضخم يضم عروضًا فنية، وأكشاكًا للباعة، وتقام فيه مباراة بيسبول شهيرة في منتصف الليل تحت ضوء الشمس الذي لا يغيب.
وفي آسيا، لا تزال بعض المجموعات، مثل شعب “هاني” في مقاطعة يونان الصينية الواقعة على مدار السرطان، تمارس تقاليد قديمة تتضمن عروضًا ثقافية واستعراضًا لظاهرة “الأعمدة عديمة الظل” في ذروة الانقلاب الشمسي. أما في اليابان، فإلى جانب الطقوس التقليدية مثل استحمام المصلين في البحر بين صخرتين مقدستين في “إيسه”، ظهر تقليد حديث يُعرف بـ”جيشي” (Geshi)، حيث يقوم المشاركون طواعية بإطفاء الأنوار لمدة ساعتين ليلًا وإضاءة الشموع، في دعوة للاسترخاء وتوفير الطاقة. إن تنوع وغنى احتفالات الشمس حول العالم يثبت أنها ليست مجرد ظاهرة فلكية، بل هي جزء حي من التراث الإنساني الذي يعبر عن ارتباط الإنسان العميق بالطبيعة ودوراتها.