يشكل النمو السكاني أحد الموضوعات الأكثر جدلية في العصر الحديث، ففي الوقت الذي تجاوز فيه عدد سكان العالم حاجز الثمانية مليارات نسمة، وفي ظل توقعات الأمم المتحدة بأن يواصل هذا الرقم صعوده ليبلغ ذروته عند 11 مليار نسمة بحلول عام 2100، يبرز سؤال جوهري بات يؤرق صناع القرار، وعلماء الاقتصاد، ونشطاء البيئة على حد سواء: هل النمو السكاني هو المحرك الحقيقي للازدهار البشري، أم أنه المعول الذي يهدم ما تبقى من موارد كوكب الأرض؟
تججد هذا الجدل بقوة منذ العام الماضي، حين سجلت الصين – العملاق الديموغرافي – انخفاضاً في عدد سكانها لأول مرة منذ ستة عقود، حيث لم يكن هذا الحدث مجرد رقم في سجلات الإحصاء، بل كان إيذاناً بفتح ملف شائك حول "الزيادة أم النقصان.. أيهما أفضل لمستقبل البشرية؟".
نستعرض في هذا التقرير، قراءات تحليلية لبيانات الأمم المتحدة وآراء خبراء الاقتصاد والبيئة، حول أبعاد هذه المعضلة، ونسرد الحجج المتضاربة بين من يرى في البشر ثروة لا تنضب، ومن يرى فيهم عبئاً لا يُحتمل.
جدلية الزيادة والنقصان.. صراع المصالح والرؤى
يفترض العديد من المراقبين للوهلة الأولى أن الانخفاض السكاني هو مؤشر "سيئ" وأن النمو هو الأمر "الجيد" والمطلوب، لكن عند التدقيق في هذا الاعتقاد، نجد أنه غالباً ما يستند إلى مصالح "الدولة" بمفهومها التقليدي، لا مصلحة الفرد أو الكوكب.
فمن منظور حكومي بحت، يُنظر إلى العدد الكبير من السكان كذخيرة استراتيجية؛ فهو يوفر المجندين للجيوش في أوقات الحرب، ويضمن تدفق دافعي الضرائب الجدد اللازمين لتمويل البرامج الاجتماعية المخصصة لكبار السن، مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية.
لذا، فإن ركود السكان أو انخفاضهم يمثل كابوساً اقتصادياً للحكومات التي تعتمد على "الهرم السكاني الفتي".
وعلى النقيض تماماً، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، تبنى دعاة حماية البيئة موقفاً مغايراً يعيد تدوير نظريات توماس مالتوس، حيث يرى هؤلاء أن ركود السكان أو انخفاضهم هو الحل الأمثل لمنع الكوارث البيئية، وقد تشكل هذا الطرح في عام 1968 مع كتاب "القنبلة السكانية" لعالم الأحياء بول إيرليتش، الذي حذر من أن الانفجار السكاني سيضرب قيود الموارد، متوقعاً حدوث مجاعات تقتل المليارات، بل وذهب البعض، مثل عالم البيئة غاريت هاردين، إلى القول بأن "حرية التكاثر أمر لا يُطاق"، وعلى الرغم من أن هذه التوقعات القاتمة لم تتحقق بالكامل، إلا أن الجدل لا يزال قائماً.
حُجج لصالح النمو السكاني
القوة الاقتصادية والابتكار
من الحجج الاقتصادية الرئيسية التي طرحها الاقتصادي الراحل جوليان سيمون، هي أن زيادة عدد البشر تعني ببساطة زيادة "الشركاء التجاريين"، فكلما زاد عدد الناس، زادت فرص التبادل التجاري المفيد، وتحسنت الفرص للجميع.
والأهم من ذلك، يرى سيمون أن البشر هم "الموارد القصوى"، فزيادة عددهم تزيد من تدفق الإبداع البشري، والاختراعات، والحلول الجديدة للمشاكل الإنسانية، فالنمو السكاني ليس مجرد أفواه تأكل، بل عقول تفكر وتبتكر.
فلسفة "المنفعة المفقودة"
توجد حجة فلسفية نفعية تُعرف بـ"أخلاقيات السكان"، حيث يجادل أنصار هذا الطرح بأن الفرد المُحتمل الذي لم يولد يُمثل "منفعة مفقودة" في العالم، وبالتالي، يجب حساب هذه الخسارة المحتملة عند اتخاذ القرارات، أي أن عدم وجود شخص كان من الممكن أن يوجد هو خسارة للإنسانية.
تحديات الحسابات النفعية
تواجه هذه الحجج تحديات كبيرة، فالنظريات الاقتصادية تؤكد أن المنفعة "ذاتية" في عقل كل فرد، ومن المستحيل علمياً جمع المنفعة بين الأفراد لتعظيم "المنفعة الاجتماعية"، وعلاوة على ذلك، لا يمكن التنبؤ بالمستقبل؛ فزيادة السكان قد تنجب عبقرياً ينقذ البشرية، لكنها قد تنجب أيضاً طاغية مثل "هتلر" يتسبب في دمار هائل، إذ تشير النظريات الاقتصادية والسياسية إلى أن محاولة التحكم في هذه النتائج تتطلب سلطة حكومية مطلقة ومستحيلة.
حُجج لصالح الاستقرار أو الانخفاض السكاني
تخفيف الضغط على الكوكب
مع تجاوز سكان العالم 8 مليارات نسمة، أصبح الضغط على النظم البيئية هائلاً، ويرى مدير شؤون السكان والاستدامة في مركز التنوع البيولوجي أن انخفاض عدد السكان - كما يحدث في الصين - هو "خبر سار"، فالبشر هم الكائنات الوحيدة التي شهدت نمواً مدمراً للأنواع الأخرى، وأن انخفاض الأعداد سيخفف العبء عن كوكب الأرض الذي وصل إلى أقصى طاقته.
التكلفة الاقتصادية للانهيار البيئي
رداً على المخاوف الاقتصادية من نقص العمالة والمستهلكين، تشير البيانات إلى أن تكلفة تدمير البيئة باهظة جداً، حيث يُقدر البنك الدولي أن انهيار النظام البيئي قد يكلف 2.7 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2030.
كما قدرت "ديلويت" أن فوضى المناخ قد تكلف الولايات المتحدة وحدها 14.5 تريليون دولار بحلول عام 2070، وبالتالي، فإن الانخفاض السكاني الذي يقلل من الانبعاثات قد يؤدي فعلياً إلى زيادة دخل الفرد بنسبة 10% بحلول عام 2055، وليس العكس.
أزمة التنوع البيولوجي
مع تضاعف سكان العالم في الخمسين عاماً الماضية، انخفضت أعداد الحيوانات البرية بنسبة 69%، وقد غيّر البشر ما لا يقل عن 70% من أراضي الكوكب المأهولة (وتشير بعض التقديرات إلى 97%)، ويهجج هذا التدمير بانهيار النظم البيئية التي توفر المياه العذبة، الغذاء، والدواء، فإن عالماً بلا تنوع بيولوجي هو عالم يعاني فقراً مدقعاً.
تمكين المرأة وجودة الحياة
يرتبط انخفاض معدلات المواليد بشكل وثيق بزيادة المساواة بين الجنسين، فالنساء الأكثر تعليماً يملن لإنجاب عدد أقل من الأطفال، وهذا التحول لا يبطئ النمو السكاني فحسب، بل يساهم في تقليل انبعاثات الكربون، وحتى في الصين، بعد تخفيف سياسة الطفل الواحد، لم ترغب النساء في التخلي عن حريتهن التعليمية والاقتصادية للعودة إلى الأسر الكبيرة.
حقائق ديموغرافية.. كيف يتغير السكان فعلياً؟
يعتمد تغير السكان على أرض الواقع على عاملين أساسيين "التغير الطبيعي – الهجرة".
الزيادة والنقصان الطبيعي: التغير الطبيعي هو الفرق بين المواليد والوفيات، فعندما يفوق عدد المواليد الوفيات، تحدث "الزيادة الطبيعية"، أما العكس فيسمى "التناقص الطبيعي"، ويحدث غالباً في المناطق ذات السكان المسنين.
الهجرة (الداخلية والدولية): تلعب الهجرة دوراً حاسماً، فقد تنمو منطقة ما بسبب "الهجرة الصافية" أي زيادة عدد الداخلية إلى الدولة أو المنطقة في مقابل عدد الخارجين منها.
رسائل الأمم المتحدة.. الاستهلاك أهم من العدد
تقدم الأمم المتحدة رؤية توفيقية هامة من خلال رسائلها الرئيسية بشأن التعداد السكاني، حيث تضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالعلاقة بين السكان والبيئة:
النمو حتمي ولكن متباطئ: من غير المرجح أن يتغير مسار النمو السكاني العالمي بشكل كبير في العقود الثلاثة أو الأربعة القادمة بسبب "زخم النمو السابق".
الاستهلاك هو المعضلة: تؤكد البيانات أن ارتفاع نصيب الفرد من الدخل كان عاملاً أكثر أهمية من النمو السكاني في زيادة الإنتاج والاستهلاك وتدمير البيئة، فالبلدان ذات أعلى معدلات انبعاثات واستهلاك للموارد هي البلدان الغنية ذات الدخل المرتفع، وليست البلدان التي ينمو سكانها بسرعة.
مسؤولية الدول الغنية: تتحمل الدول الأكثر ثراءً المسؤولية الكبرى في التحرك نحو "صافي انبعاثات صفري"، وفي دعم الدول النامية تقنياً ومالياً لتمكينها من النمو الاقتصادي دون تكرار أخطاء الماضي البيئية.
العائد الديموغرافي: في الدول ذات الخصوبة المرتفعة، يمكن للاستثمار في الصحة والتعليم أن يحول النمو السكاني إلى "عائد ديموغرافي" ومكسب اقتصادي مؤقت ومفيد.
وفي النهاية لا يمكن الإغفال عن أن النمو السكاني مسألة مركبة، تتداخل فيها الاقتصاد والأخلاق والبيئة، والحل الأمثل ليس في فرض الزيادة أو النقص، بل في وضع سياسات تدعم التنمية المستدامة، وتحافظ على البيئة، وتحقق العدالة الاجتماعية، لضمان مستقبل أفضل للبشرية والكوكب معًا.
يمكنك أن تقرأ أيضًا:
عصر نقص البشر قادم.. ما الذي ينتظرنا مستقبلًا؟












