يدخل العالم مرحلة تحول ديموغرافي فريدة لم يشهدها التاريخ من قبل، حيث أدت عوامل انخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع متوسط العمر المتوقع إلى تسارع نسبة كبار السن (البالغين 65 عامًا فأكثر) من إجمالي عدد السكان.
ويكشف تحليل للتوقعات العالمية الصادرة عن الأمم المتحدة أن خارطة توزيع السكان المسنين ستتغير جذريًا بحلول عام 2100، إذ ستنتقل بؤرة هذه الظاهرة من أوروبا إلى شرق آسيا، ما يفرض تحديات هائلة على الاقتصادات العالمية التي تكافح للحفاظ على قوتها العاملة.
خريطة كبار السن في 2025
تظهر البيانات الحالية لعام 2025 أن أوروبا لا تزال هي المركز العالمي لشيخوخة السكان، فقد احتلت دول القارة 22 مركزًا من أصل 25 مركزًا في قائمة الدول التي تضم أكبر نسبة من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا، مع الأخذ في الاعتبار الدول التي يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة.
ويعد هذا التمركز نتاجًا للتحول الديموغرافي الذي بدأ مبكرًا في القارة، والذي نتج عنه انخفاض مستدام في معدلات المواليد وارتفاع في متوسط العمر المتوقع.
ويلاحظ أن اليابان، وهي واحدة من ثلاث دول غير أوروبية فقط في قائمة الـ 25 الأوائل لعام 2025، تتصدر هذه القائمة بنسبة صادمة، حيث يبلغ 30% من سكانها سن 65 عامًا أو أكثر.
وتأتي دول أوروبية عريقة مثل اليونان وإيطاليا والبرتغال في مقدمة الترتيب، حيث يتجاوز ربع السكان لديهم سن 65 عامًا.
ويشير هذا المشهد أن أوروبا بدأت تشعر فعليًا بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن ارتفاع نسبة كبار السن مقابل انكماش القوة العاملة.
الشيخوخة تزحف نحو آسيا
تعد منطقة شرق آسيا هي المحور الأبرز في التوقعات المستقبلية لشيخوخة السكان، فبينما كانت المنطقة خارج قائمة الـ 25 الأوائل في عام 2025، يُتوقع أن تشهد قفزات هائلة بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين.
ويظهر تحليل الأمم المتحدة أن هذا التسارع ناتج عن انخفاض تاريخي في معدلات الخصوبة، مقترنًا بتحسن سريع في متوسط العمر المتوقع، وهو ما يعرف بـ "سباق الشيخوخة".
وتشير التوقعات أن الصين، التي كانت خارج قائمة الـ 25 الأوائل في 2025، ستحتل المرتبة الثالثة عالميًا في نسبة كبار السن بحلول عام 2100، حيث يتوقع أن يقترب نصيبهم من إجمالي السكان من 46%.
وستتبع الصين دول آسيوية أخرى، حيث يتوقع أن يتجاوز كل من كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة عتبة 40% من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا بحلول نهاية القرن.
ولذلك، فإن هذه الدول، بما في ذلك اليابان التي ستظل في المقدمة، تواجه تحديًا فريدًا من نوعه، فهي تتقدم في العمر بوتيرة أسرع بكثير مما حدث في أوروبا، ولكن دون أن تستفيد بالقدر الكافي من عامل التخفيف الأساسي من الأزمة وهو الهجرة.
الهجرة تخفّف آثار الشيخوخة في أوروبا
يشكل تدفق المهاجرين درعًا لأوروبا تستخدمه في تخفيف الضغط الديموغرافي، وهو ما يفسر سبب تباطؤ الزيادة المتوقعة في نسبة كبار السن في القارة بعد عام 2050.
أظهرت نمذجة "يوروستات" أن الاتحاد الأوروبي، بدون الهجرة، كان سينكمش بمقدار الثلث بحلول عام 2100، لكن بفضل الهجرة، يتوقع أن ينكمش بنسبة 6% فقط.
وتعد مكاسب النمو السكاني الحديثة في دول مثل إسبانيا وألمانيا مدفوعة بالكامل تقريبًا بالهجرة.
ويحذر البرلمان الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) من أن إغلاق الأبواب أمام المهاجرين سيؤدي حتمًا إلى تسريع ارتفاع نسبة الإعالة لكبار السن.
وفي المقابل، تواجه منطقة شرق آسيا تحديًا ثقافيًا وتنظيميًا في هذا الصدد، حيث تعد المنطقة من أقل مناطق العالم انفتاحًا على الهجرة، وتقدّر نسبة المقيمين المولودين في الخارج بـ 3% فقط من سكان اليابان، وأكثر قليلاً من 5% في كوريا الجنوبية، مع نسب أقل في الصين وتايوان.
ويوضح الخبراء أن هذا النفور من الهجرة يترك المجتمعات الآسيوية عالقة في مسارات الشيخوخة الأكثر حدة، ما لم يحدث تغيير جذري في السياسات أو انتعاش مستدام ومفاجئ في معدلات الخصوبة، مثل الارتفاع الطفيف الأخير الذي سجلته كوريا الجنوبية بنسبة 3.6% في المواليد.
وتظل الهجرة الرافعة الواقعية الوحيدة لإبطاء زحف نسبة كبار السن إلى مستويات تصل إلى 50% أو أكثر من نسبة المتقاعدين إلى العمال.
الضغوط الاقتصادية والمالية على الأنظمة بسبب زيادة كبار السن
يمثّل ارتفاع نسبة كبار السن تحديًا اقتصاديًا وماليًا ضخمًا، خاصة وأن الأنظمة الاجتماعية الحالية، بما في ذلك المعاشات والرعاية الصحية، مصممة لعالم كانت فيه نسبة الشباب العاملين أعلى بكثير.
وتعد الضرائب والخدمات الاجتماعية هي الأكثر تضررًا، حيث تتقلص القاعدة الضريبية التي يعتمد عليها تمويل الرعاية الصحية والمعاشات، بينما تزداد الحاجة إلى هذه الخدمات ذات التكلفة المرتفعة مع ارتفاع عدد السكان المسنين.
ويعتبر التحدي في الصين، على وجه الخصوص، تحديًا مزدوجًا، فمن ناحية، ستصبح ثالث أعلى دولة في نسبة كبار السن، ومن ناحية أخرى، لا توفر الهجرة أي تخفيف يذكر.
وعلى هذا، فإن بكين أمام اختبار حقيقي لمدى قدرة نموذجها الاقتصادي على دعم هذا العدد الهائل من المتقاعدين دون إبطاء النمو الاقتصادي، أو دون فرض أعباء مفرطة على الجيل الشاب المنكمش.













