تُعد صناعة القطران من أقدم الحرف التقليدية التي حافظ عليها السعوديون عبر الزمن، إذ تمثل جزءًا من هوية المجتمعات الريفية في مختلف مناطق المملكة. ويُطلق على من يمتهنون هذه الحرفة أسماء متعددة مثل الوَقّادة أو القَطّارية، وقد اشتهروا بمهارتهم في استخراج الزيت الأسود اللماع المعروف بـ”القطران” من أخشاب الأشجار المحلية.
ورغم تشابه الخطوات الأساسية لعملية استخراج القطران في مناطق المملكة، فإن لكل منطقة طريقتها الخاصة تبعًا لأنواع الحطب المتوفرة وطبيعة الأرض والمناخ. وتتشارك جميع الطرق في مبدأ واحد وهو تسخين الخشب ببطء داخل موقد مغلق بعيدًا عن الهواء، حتى يتكثف الدخان ويتحول إلى سائل القطران، الذي يُجمع في أوانٍ حجرية أو فخارية تحت الأرض.
أبرز مناطق استخرج القطران في المملكة
تشتهر بعض مناطق المملكة بحرفة استخراج القطران دون عن غيرها ومن بينها:
ميسان.. موطن “العتم” وزيت الخشب
في جبال بني مالك بمحافظة ميسان جنوب الطائف، تنتشر أشجار العُتم (الزيتون البري) التي تُعد من أفضل المصادر لإنتاج القطران. ويستخلص الأهالي منها زيتًا ذا جودة عالية يُستخدم في طلاء المراكب الخشبية وفي العلاجات البيطرية.
الباحة.. أسواق تفوح برائحة التراث
أما في منطقة الباحة، فتُعد صناعة القطران من أبرز الحرف اليدوية التي لا تزال حاضرة بقوة في الأسواق الشعبية. وتنبعث من متاجرها رائحة القطران النفاذة، المعروفة محليًا باسم “الشوب”، وهو منتج يُستخرج من أخشاب السمر المنتشرة بكثرة في المنطقة. يستخدمه الحرفيون في طلاء الأبواب والنوافذ القديمة وفي علاج الإبل والأغنام من الأمراض الجلدية، مما يجعل هذه الحرفة موردًا اقتصاديًا وتراثيًا في آن واحد.
عملية إنتاج القطران
تقوم صناعة القطران على مبدأ التقطير الإتلافي للخشب، أي حرقه ببطء داخل أوعية محكمة الإغلاق، حيث تتجمع الأبخرة الناتجة عن الاحتراق في قنوات تؤدي إلى أوانٍ تحت الأرض. وهناك، تتكثف الأبخرة لتتحول إلى سائل داكن اللون يتكون من طبقتين: الطبقة العلوية الخفيفة وتُعرف باسم المُهل، والطبقة السفلية الثقيلة وتُسمى القار. ويُعرف الموقد الذي تُجرى فيه العملية باسم المَقْطر أو الموقد، وهي منشآت بدائية التصميم لكنها فعالة وتُستخدم منذ قرون.
ويُفضَّل في هذه الصناعة حطب السمر والأثل لوفرتها في البيئة السعودية. يُنتج السمر قطرانًا عالي الجودة قليل الدخان، بينما يعطي الأثل كميات أكبر لكنه أكثر رطوبة. أما خشب العُتم فيُعتبر الأفضل من حيث الرائحة والنقاء، ويُستخدم لإنتاج نوع فاخر يُعرف باسم سمن القطران، يُستعمل في العناية بالشعر والعلاجات الشعبية.
أنواع القطران واستخداماته
ينقسم القطران إلى نوعين رئيسيين:
المُهل (القطران الخفيف)
يُستخدم في الطب الشعبي لعلاج الجرب والقشرة، ويُدهن به الإبل والماعز لحمايتها من الحشرات والبرد، كما يُستفاد منه في العناية بالشعر نظرًا لخصائصه المطهّرة والعطرية.
القار (القطران الثقيل)
مادة سوداء لامعة تُستعمل في طلاء الأدوات الخشبية والأبواب القديمة، كما تُستخدم لحماية الأواني والسفن من التلف والرطوبة، ولوقاية الأخشاب من التسوس والنخر.
ورغم تطور المواد الصناعية الحديثة، لا تزال القطرنة رمزًا للحرفة الأصيلة في السعودية، يجسد مهارة الإنسان في استغلال الموارد الطبيعية وتحويلها إلى منتجات نافعة. وتبقى رائحة القطران المتصاعدة من مواقد الحرفيين في الباحة وميسان شاهدة على علاقة الإنسان السعودي بتراثه العريق.
اقرأ أيضًا:
مسجد القبلتين.. منارة إيمانية بتصميم عصري
اليوم الوطني 95 | كرم الملك المؤسس كما رصدته صحافة عهده
الهجر.. قصة مشروع الملك عبد العزيز الأكبر في التاريخ














