غيب الموت، مساء أمس الأحد، الأديب السعودي أحمد أبو دهمان، عن 76 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا أدبيًا فريدًا، جعل منه أول كاتب من الجزيرة العربية يؤلف عملًا إبداعيًا باللغة الفرنسية، ليصبح بذلك صوتًا متفردًا نقل تفاصيل القرية السعودية إلى فضاءات العالمية.
فأبو دهمان المولود عام 1949، وأنفق عقودًا من عمره في باريس، لا تعكس رحلته داخل المملكة وفي فضاء القارة الأوروبية، مجرد تنقل جغرافي، بل صعودًا متدرجًا يحمل في طياته تحولات المجتمع السعودي.
من «آل خلف» إلى «السوربون»
بدأ صاحب «الحزام» حياته في قرية «آل خلف» بمحافظة سراة عبيدة في منطقة عسير جنوب المملكة، وهناك حاز شهادته الابتدائية، قبل أن ينتقل إلى أبها للمرحلة المتوسطة، ثم إلى الرياض ليلتحق بمعهد تدريب المعلمين وينهي المرحلة الثانوية، ليعود من جديد إلى قريته ليعمل معلمًا لمدة ثلاث سنوات، لكن شغفه بالعلم قاده مجددًا إلى الرياض، حيث تخرج في جامعة الملك سعود (جامعة الرياض آنذاك) من قسم اللغة العربية بتقدير ممتاز، مما أهله ليصبح معيدًا في الجامعة نفسها.
وفي عام 1979، بدأت مرحلة مفصلية في حياته حين التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل منها على درجة الماجستير، لتبدأ قصته مع «البلاط الفرانكفوني».
«الحزام».. وثيقة ضد الكراهية
في عام 2000، حقق أبو دهمان حضورًا لافتًا عبر روايته الأشهر «الحزام» الصادرة عن دار «جاليمار» الفرنسية العريقة. هذه الرواية لم تكن مجرد سرد أدبي، بل كانت فعلًا ثقافيًا مقاومًا، يقول عنها: «كتبتها بالفرنسية لأني عملت باحثًا وصحفيًا، ورأيت حينها لدى الكثيرين كرهًا لبلادنا، فأردت أن أنقلها بحقيقتها كما وجدتها وأحببتها».
حققت الرواية شهرة واسعة، وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، قبل أن يترجمها الكاتب بنفسه إلى العربية لتصدر عن دار «الساقي».
واعتبر النقاد أن هذه التجربة جسرت المسافة بين الثقافة المحلية والقراءات العالمية بأسلوب يمزج بين الذكريات والهوية، واصفين العمل بأنه علامة فارقة في الرواية السعودية الحديثة؛ ورغم أن الراحل لم يعدّها سيرة ذاتية، إلا أنه أكد: «كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي»، مشددًا على أنه يحمل في داخله قريته «مثل نار لا تنطفئ».
مسيرة صحفية وإدارية
وبالموازاة مع منجزه الروائي، كان لأبو دهمان حضور بارز في الصحافة السعودية، حيث كتب عمودًا أسبوعيًا في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، تناول فيه التحولات الاجتماعية والإنسانية بلغة تجمع بين الشاعرية والتأمل.
كما شغل مناصب إدارية هامة، منها مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية» ومقرها الرياض.
ولعل ذلك الحضور المتشعب بين الأدب والصحافة، هو ما جعل لرحيله وقعًا خاصًا، حيث شكل نبأ وفاته صدمة في الأوساط الثقافية، وتوالت عبارات النعي التي تبرز مكانته؛ إذ نعاه الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي، مؤكدًا أنه «قدّم للأدب والثقافة السعودية إرثًا مهمًا ومتنوعًا، وأسهم في انتقال صوتنا الأدبي إلى العديد من اللغات». وكان وزير الثقافة قد أهدى في يونيو 2023 وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد المالك نسخة من رواية «الحزام» اعترافًا بقيمتها كهدية نابعة من الثقافة السعودية الخالصة.
وفي السياق ذاته، كتب بدر العساكر، مدير المكتب الخاص لولي العهد السعودي، رسالة عبر منصة «إكس» تناول فيها إسهام الروائي الراحل. بينما استعاد الدكتور زياد الدريس ذكرياته مع الراحل في العاصمة الفرنسية قائلًا: «حين ذهبت للعمل في باريس كان هو "الحزام" الذي يربطني بنكهة وطني». أما الشاعر فهد عافت فودعه بكلمات مؤثرة: «وماذا عن أحمد أبو دهمان؟ ولد يعرف أين تخبّئ طيور القلب أعشاشها». ومن الأصوات التي رثت الراحل، الدكتورة وفاء الرشيد التي وصفته بالكاتب الذي عاش استثنائيًا ورحل في هدوء موجع، مشيرة إلى أنه «خرج من سراة عبيدة لباريس حاملًا قريته وذاكرتها... ففهمه العالم».
تلك الشهادات التي أجمعت على فرادة تجربته، تؤكد أنه برحيل أحمد أبو دهمان، تفقد الساحة الثقافية أديبًا لم يكن «فرنسيًا» إلا باللسان، بينما بقيت جذوره صلبة في عسير، موثقًا مرحلة انتقال المجتمع القروي من الانغلاق إلى الانفتاح، وتاركًا «حزامًا» من الإبداع يطوّق ذاكرة قرائه في الشرق والغرب.














