مع حلول اليوم الوطني، تعود الذاكرة الوطنية إلى أبرز المشروعات التي أسهمت في صناعة التحول الاجتماعي والثقافي في المملكة، وفي مقدمتها مشروع “الهجر”، الذي يعد أكبر عملية توطين منظم للبادية في التاريخ. لم يكن المشروع مجرد خطة إسكانية أو إصلاح اقتصادي، بل كان رؤية متكاملة قادها الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، لتحويل حياة البدو من الترحال إلى الاستقرار، والبناء والإنتاج، ومن الولاء للقبيلة إلى الولاء للوطن والدولة.
في السطور التالية نسلط الضوء على أبرز ما جاء في مقال “لبهجر ودورها في الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز” بقلم الدكتور محمد بن عبد الله السلمان، في مجلة الفيصل العدد 252.
بعد سقوط الدولة السعودية الثانية عام 1310هـ/1891م، عاش الملك عبد العزيز فترة في حياة البادية، وهو ما أتاح له التعرف عن قرب على أبرز مشكلات البدو مثل الفقر، والقحط، والانقسام القبلي، وانعدام الأمن. هذه التجربة كانت دافعًا لتصميم مشروع حضاري يقوم على توطين البدو في تجمعات عمرانية دائمة، بحيث يخضعون لسلطة الدولة المركزية، ويجدون في الزراعة والأنشطة المستقرة بديلًا عن حياة التنقل القاسية.
وقد لاقت دعوة الملك صدى لدى القبائل، خاصة بعد سنوات من الجدب والقحط، فوجد البدو في “الهجر” فرصة لتحسين أوضاعهم المعيشية، وضمان مصادر رزق أكثر استقرارًا من الرعي وحده. وكان مشروع الهجر متعدد الأبعاد. فمن الناحية الدينية، وفر بيئة لنشر تعاليم الإسلام وتعميق الالتزام بها. ومن الناحية السياسية، ساعد في جمع شتات القبائل تحت راية واحدة. أما اقتصاديًا، ففتح الباب أمام الزراعة والتجارة، بينما كان للبعد العسكري دور بارز، إذ تحول سكان الهجر إلى قوة رئيسية في معارك توحيد المملكة، بدءًا من ضم الأحساء عام 1913م وحتى دخول الحجاز عام 1925م. وقد عبّر الملك عبد العزيز عن فاعلية هذا المشروع بقوله إن البدو في أيام السلم ينالون ما يحتاجون من رزق وكسوة، لكن في الحرب لا يطلبون شيئًا، بل يهبّون متقلدين السلاح لخوض المعارك.
بدأ التفكير الجدي في المشروع عام 1328هـ/1910م، وانطلق التنفيذ عام 1330هـ/1912م، مع تأسيس أول هجرة في الأرطاوية لقبيلة مطير، تلتها هجرة الغطغط لقبيلة عتيبة. هاتان الهجرتان كانتا الأكبر والأكثر تأثيرًا، قبل أن يتوسع المشروع ليشمل أكثر من 200 هجرة موزعة على نجد والأحساء والحجاز. ولم تكن الهجر مجرد تجمعات سكنية، بل جرى تصميمها كنواة مدنية متكاملة حيث حُفرت الآبار، وأقيمت المساجد، وزعت الأراضي الزراعية، ومنحت العطايا لرؤساء القبائل، لتشجيعهم على قيادة أتباعهم نحو الاستقرار. كما تم تعزيز الانتماء الوطني من خلال إشراك شيوخ القبائل في القيادة العسكرية غير النظامية.
وكان أحد أهم أهداف المشروع هو إقناع البدو ببيع الإبل – رمز الترحال – والانخراط في الزراعة. ومع أن البعض في البداية آثر التفرغ للتعليم الديني على العمل، إلا أن فتاوى العلماء بوجوب الزراعة شجعت على التوجه نحو الإنتاج. ومع الوقت، تحول سكان الهجر من مجتمع يعتمد على الرعي وحده إلى مجتمع يمارس الزراعة والتجارة والصناعة، إلى جانب الوظائف الحكومية.
وكان للمسجد دور محوري في حياة الهجر باعتباره مكانًا للعبادة، ومنبرًا للوعظ، ومركزًا للتعليم وحل النزاعات. ومن خلال شبكة الوعاظ والمرشدين (المطاوعة) الذين أرسلهم الملك عبد العزيز، غُرست القيم الإسلامية الصحيحة، وعززت ثقافة الطاعة للنظام والانتماء للأمة.
تجاوزت نتائج المشروع الجانب الاقتصادي لتصل إلى عمق البنية الاجتماعية. فقد قلّص من النزعة القبلية، وأرسى الانتماء للوطن بدلًا من الولاء للشيخ، وغيّر صورة البدو من قطاع طرق يفرضون الإتاوات على القوافل، إلى حماة للطريق يقدسون حرمة الدم والمال. كما عمّق مبدأ الأخوة الإسلامية بين القبائل، بعد أن أنهكتهم صراعات المراعي والمياه. وإحصائيًا، أسهم المشروع في تراجع نسبة البداوة بشكل ملحوظ من 68% عام 1932م إلى نحو 27% فقط عام 1974م. وهو ما يعد تحولًا اجتماعيًا غير مسبوق في عقود قليلة.
ولم تخلُ التجربة من عقبات، أبرزها نقص المرافق الصحية والخدمات الفنية، إلى جانب بطء تقبل بعض البدو لفكرة الاستقرار. لكن الملك عبد العزيز واجه هذه التحديات تدريجيًا، عبر توفير الموارد حسب المتاح، وتوسيع نطاق التعليم، وإنشاء مديرية المعارف عام 1926م لتقود إصلاحًا شاملًا في البنية التعليمية. ومع الوقت، أسهم انتشار المدارس والمعاهد في تثبيت أركان المشروع، وتكوين جيل جديد من المتعلمين.
واستمر مشروع الهجر بعد عهد المؤسس، لتنشأ هجر جديدة في خمسينيات القرن العشرين وما بعدها. ومع تراكم التجربة، أصبحت هذه المجتمعات العمرانية الحديثة ركيزة لتحول المملكة نحو الدولة الحديثة، التي توازن بين الأصالة والتحديث. وقد وصف مؤرخون غربيون هذه التجربة بأنها “أكبر عملية توطين منظم في تاريخ البشرية”، لما حملته من أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية وأمنية.
اقرأ أيضًا:
“إثراء” يحتفل باليوم الوطني 95 بـ 40 فعالية
مهرجانات واحتفالات كبرى ضمن فعاليات اليوم الوطني السعودي 2025
اليوم الوطني.. أبرز المحطات التاريخية للسياسة السعودية