عادة ما يُقاس حجم تأثير الحروب وفقًا للخسائر أو التداعيات الجيوسياسية، ولكن صراعًا واحدًا فريدًا حجز مكانه في السجلات ليكون الأطول في التاريخ وبدون نقطة دماء واحدة.
وتُعد قصة هذا الصراع الذي دار بين هولندا وجزر سيلي البريطانية، واستمرت 335 عامًا، شهادة على كيف يمكن لخطأ دبلوماسي وإغفال إداري أن يُنشئ واقعًا قانونيًا يتجاوز المنطق، ليصبح أغرب نزاع في التاريخ العسكري.
تعود جذور هذه القصة إلى منتصف القرن السابع عشر، في خضم الحرب الأهلية الإنجليزية الثانية (1642-1651)، التي دارت بين الملكيين الموالين للعرش، والبرلمانيين بقيادة أوليفر كرومويل. في هذا الصراع الداخلي، اتخذت هولندا، التي كانت حليفًا قديمًا للملكيين، قرارًا استراتيجيًا بالانحياز إلى جانب البرلمانيين بعد أن رأت أنهم الطرف الأقرب إلى تحقيق النصر.
واعتبر الملكيون هذا التحول في التحالفات خيانة، وردوا بشن غارات على ممرات الشحن التجارية الهولندية، مما كبد الهولنديين خسائر فادحة. وبحلول عام 1651، كانت قوات الملكيين قد حوصرت في آخر معاقلها، وتراجع أسطولها البحري إلى جزر سيلي، وهي أرخبيل صغير يقع قبالة الساحل الغربي لبريطانيا. هذه الظروف هي التي مهدت الطريق لبداية أطول حرب في التاريخ.
رأت هولندا في حصار الأسطول الملكي في جزر سيلي فرصة سانحة لتعويض خسائرها. وعلى الفور، أرسلت أسطولاً مكونًا من اثنتي عشرة سفينة حربية بقيادة الأدميرال مارتن ترومب إلى الجزر للمطالبة بتعويضات. وبعد أن قوبل طلبه برد غير مُرضٍ، أعلن الأدميرال ترومب الحرب رسميًا على جزر سيلي في 30 مارس 1651. هذا الإعلان الرسمي، رغم الجدل التاريخي حول صلاحية الأدميرال في اتخاذه، كان بمثابة نقطة الانطلاق الرسمية لما سيصبح أطول حرب في التاريخ.
المفارقة الكبرى هي أن “الحرب” لم تشهد أي قتال. ففي يونيو 1651، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان الحرب، تمكنت القوات البرلمانية من إجبار الأسطول الملكي على الاستسلام، وبذلك، انتهى التهديد الذي كان يواجه الشحن الهولندي بشكل كامل. ومع انتفاء سبب الصراع، أبحر الأسطول الهولندي عائدًا إلى دياره دون أن يطلق رصاصة واحدة.
لكن في خضم هذه الأحداث، حدث إغفال تاريخي بسيط لكنه حاسم: لقد نسوا إعلان السلام بشكل رسمي أو سحب إعلان الحرب. وبذلك، ظلت هولندا وجزر سيلي في حالة حرب من الناحية الفنية، وهو وضع استمر دون أن يلاحظه أحد لثلاثة قرون وثلث، مما جعلها حربًا منسية على الورق فقط، وهذه هي القصة الحقيقية وراء أطول حرب في التاريخ.
في عام 1985، كان مؤرخ محلي من جزر سيلي، يُدعى روي دنكان، يبحث في الفولكلور المحلي حول هذه الحرب الأسطورية. وبدافع الفضول، قرر مراسلة السفارة الهولندية في لندن للتحقق من صحة القصة. ولدهشة الجميع، كشفت سجلات السفارة عن وثائق تؤكد أن حالة الحرب بين هولندا والجزر لا تزال قائمة بالفعل، وأن أطول حرب في التاريخ لم تنتهِ بعد.
وعلى الفور، كتب دنكان إلى السفير الهولندي آنذاك، راين هويديكوبير، ودعاه لزيارة الجزر وتوقيع معاهدة سلام لإنهاء أطول حرب في التاريخ بشكل رسمي. وافق السفير، وفي 17 أبريل 1986، تم توقيع معاهدة السلام التاريخية. وفي تصريح طريف، قال السفير لسكان الجزر: “لا بد أنه كان من المروع أن تعرفوا أننا قد نهاجم في أي لحظة”. وهكذا، انتهت أطول حرب في التاريخ، ليس بطلقات المدافع، بل باتفاق السلام لتصبح حكاية فريدة عن أغرب صراع في التاريخ.