تعيش الاقتصادات العالمية تحولات عميقة في هيكل السكان، خصوصًا في فئة العمر التي يُعدّ الأفراد فيها أكثر قدرةً على العمل. هذه الفئة، التي تعرف باسم "السكان في سن العمل"، تشكّل العمود الفقري لأي اقتصاد، إذ يعتمد عليها تمويل الخدمات العامة، تشغيل الصناعات، ودعم النمو الاقتصادي.
ولكن مع مرور الوقت، تتباين هذه الفئة بين الدول، لتخلق سيناريوهات مختلفة، إذ تحقق بعض الدول "قيمة ديموغرافية" بفضل وفرة العمالة الشابة، بينما تواجه دول أخرى تراجعًا حادًا في أعداد السكان القادرين على العمل، ما يضعها أمام أزمة اقتصادية حقيقية.
السكان في سن العمل.. من هم؟
يشير مصطلح "السكان في سن العمل" إلى العدد الإجمالي للأشخاص المؤهلين للعمل ضمن نطاق عمري محدد، عادةً بين أواخر سن المراهقة وحتى سن التقاعد أي بين 15 و64 عامًا. وهذه الفئة لا تتطابق دائمًا مع "السكان العاملين"، حيث قد يكون بعض الأفراد في سن العمل غير موظفين لظروف مختلفة مثل الإعاقة أو مسؤوليات الرعاية، في حين يعمل بعض الأفراد خارج هذا النطاق العمري. ويُعد فهم حجم هذه الفئة ومعدل تغيرها عبر الزمن مؤشرًا أساسيًا على قدرة الاقتصاد على إنتاج الثروة وتحمل أعباء الرعاية الاجتماعية.
التفاوت بين الدول.. بين الوفرة والنقص
بحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ، فإن الدول الأكثر تضررًا بانخفاض عدد السكان في سن العمل تشمل اليابان، كوريا الجنوبية، ألمانيا وإيطاليا. وفي اليابان، على سبيل المثال، من المتوقع أن ينخفض عدد السكان في سن العمل إلى 61.8% من مستوى عام 2000 بحلول عام 2050، بينما ستسجل كوريا وإيطاليا مستويات قريبة من 80%، وألمانيا نحو 85%.
في المقابل، من المتوقع أن تشهد دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عمومًا زيادة طفيفة في عدد السكان في سن العمل، لتصل إلى نحو 111% بحلول منتصف القرن، مدفوعةً بالنمو السكاني في الولايات المتحدة، أستراليا، وتركيا.
ويخلق هذا التفاوت "أقاليم فائضة" من العمالة الشابة، وهي مناطق تتمتع بميزة تنافسية في جذب الاستثمارات وتوسيع الصناعات، بينما تواجه الدول التي تعاني من تراجع السكان في سن العمل صعوبات متزايدة في شغل الوظائف، تمويل النظم الاجتماعية، وتقديم الرعاية الصحية لكبار السن.
أثر الشيخوخة على سوق العمل
تُعد الشيخوخة السريعة للسكان عاملًا حاسمًا في تغير حجم القوى العاملة. فالدول التي تشهد ارتفاعًا في متوسط العمر، مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا، تواجه ضغوطًا مضاعفة مثل: تراجع عدد السكان في سن العمل، وزيادة عدد كبار السن الذين يعتمدون على هذه الفئة في توفير الخدمات الأساسية والمعاشات.
وتُظهر بيانات عام 2024 أن اليابان تمتلك نسبة إعالة لكبار السن تبلغ أكثر من 50%، ما يعني أن كل مئة بالغ في سن العمل يدعمون أكثر من خمسين متقاعدًا، وهي نسبة ضخمة تعكس الضغط الكبير على الميزانيات العامة والنظم الاجتماعية.
ولا تزال الدول التي لديها نسب إعالة أقل، مثل الولايات المتحدة وأستراليا وكوبا، تتمتع بميزة ديموغرافية نسبية، حيث يشكل كبار السن جزءًا أقل من السكان، ما يمنح الاقتصاد قدرة أكبر على النمو ويخلق سوقًا عمالية أكثر توازنًا بين العرض والطلب.
التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية
يؤثر غياب العمالة الشابة أو انخفاض عدد السكان في سن العمل مباشرة على قرارات المستثمرين. ففي مثال واقعي من الولايات المتحدة، واجهت ولاية ويسكونسن صعوبات في توفير عدد كافٍ من العمال عندما وعدت شركة فوكسكون بإنشاء 13 ألف وظيفة جديدة بحلول 2022. وبحلول يناير 2019، تراجعت الشركة عن وعدها، بسبب نقص السكان المؤهلين لشغل هذه الوظائف، ما أثار جدلًا حول جاهزية السوق المحلي.
على الجانب الآخر، تتمتع المناطق ذات عدد السكان في سن العمل مرتفع أو متزايد بجاذبية أكبر للشركات التي تسعى للتوسع أو الانتقال، إذ توفر هذه البيئات قوة عاملة كافية لدعم النمو الصناعي والخدماتي.
ولا يقتصر تراجع عدد السكان في سن العمل على نقص اليد العاملة، بل يمتد ليؤثر على الاستهلاك، والتمويل العام، واستدامة الابتكار. فكلما تقلص عدد العمال، يقل التمويل المتاح للبرامج الاجتماعية والخدمات الصحية، ويزداد العبء على الشباب الذين يغطون تكاليف معاشات كبار السن.
كما أن الأسر الأكبر سنًا تميل إلى الاستثمار في أصول أكثر أمانًا وعائدًا ثابتًا، مثل السندات والعقارات المدرة للدخل، بدلًا من المخاطرة بالاستثمار في شركات ناشئة أو أسهم عالية المخاطر، ما قد يحد من ديناميكية الابتكار وريادة الأعمال في هذه الاقتصادات.
ومن الناحية المثالية، يحتاج الاقتصاد إلى تدفق مستمر ومتوازن من الأشخاص الذين يدخلون ويخرجون من سوق العمل سنويًا. إذ إن وجود توازن صحي بين السكان في سن العمل وأولئك خارج هذا النطاق العمر يضمن استقرار الأسواق، قدرة الدول على تمويل الخدمات العامة، وتوفير فرص التوظيف الكافية.
مستقبل القوى العاملة
مع استمرار الاتجاهات الديموغرافية الراهنة، ستشهد بعض الدول صراعًا حادًا للحفاظ على توازن سوق العمل، بينما ستكتسب دول أخرى ميزة تنافسية حقيقية بفضل وفرة السكان في سن العمل. وستتمكن البلدان التي تتكيف بسرعة مع هذه التحولات، من خلال تشجيع الهجرة، وتحسين الإنتاجية، وتطوير سياسات اجتماعية فعّالة، من الاستفادة من القيمة الديموغرافية ودرء الأزمات المحتملة.
في المقابل، ستواجه الدول التي تفشل في مواجهة تراجع القوى العاملة تحديات مزدوجة مثل: توفير خدمات الرعاية لكبار السن وتأمين العمالة اللازمة لدفع عجلة الاقتصاد. ولن تؤثر هذه التحولات فقط على الأسواق المحلية، بل ستعيد تشكيل الاقتصاد العالمي وتوازن القوى الاقتصادية بين المناطق المختلفة.













