يساعد فهم أبعاد أزمة الزيادة السكانية الأفراد والمجتمعات على السواء، في تقليل آثارها السلبية؛ لأن التعاطي معها يشعر الجميع بالمسؤولية عن حلّها، فضلًا عن مساعدة الحكومات في تنفيذ الإجراءات المرتبطة بكبحها.
ولتكوين صورة عن المشكلة، عليك إتقان مفاهيم ديموغرافية أساسية تشرح كيف ينمو السكان، ولم يساعد ذلك في رسم خريطة العالم الاقتصادية والاجتماعية.
الخصوبة محرك الزيادة السكانية
يشير مصطلح الخصوبة (Fertility rate) إلى حجر الزاوية في أي تحليل سكاني، إذ يعرَّف معدل الخصوبة الكلي في عام محدد بأنه العدد الإجمالي للأطفال الذين من المتوقع أن تنجبهم كل امرأة لو عاشت حتى نهاية سنوات الإنجاب، وأنجبت أطفالًا وفقًا لمعدلات الخصوبة الخاصة بالعمر السائدة حاليًا.
ويحتسب هذا المعدل عن طريق تجميع معدلات الخصوبة الخاصة بأعمار محددة على فترات خمس سنوات.
ويعد هذا المؤشر، إلى جانب الوفيات والهجرة، عنصرًا رئيسًا في نمو السكان، وهو يعكس في الوقت نفسه أسباب ونتائج التطورات الاقتصادية والاجتماعية.
ويكشف تحليل هذا المعدل أن معدل خصوبة كلي يبلغ 2.1 طفل لكل امرأة يضمن استقرارًا سكانيًا واسعًا، بشرط عدم وجود هجرة صافية وتغيرات في معدلات الوفيات.
وتكشف بيانات العقود الماضية عن تراجع دراماتيكي في معدلات المواليد في العديد من الدول، بسبب عوامل متعددة.
ويأتي في مقدمة هذه العوامل تأجيل تكوين الأسرة والإنجاب، إلى جانب انخفاض حجم الأسرة المرغوب فيه.
وأدت هذه التغيرات إلى تحويل التركيبة السكانية في العديد من الدول، ما يضع ضغوطًا جديدة على أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم فإن فهم هذا المعدل حيويًا لتوقع مسارات النمو المستقبلية.
التركيب العمري والمخاطر الاقتصادية
تتجلى الأهمية الحقيقية للديموغرافيا في فهم معدل التركيب العمري (Age structure)، الذي يُشير إلى توزيع السكان حسب الفئات العمرية، ويصنَف عادة إلى فئة ما قبل الإنجاب (0-14 سنة)، وفئة الإنجاب (15-44 سنة)، وفئة ما بعد الإنجاب (45+ سنة)، أو تصنيفات أدق.
ويمثل هذا التركيب مفهومًا أساسيًا يوفر لمحة عن تكوين سكان أي بلد في لحظة زمنية معينة.
ويتضح أن فهمه لا غنى عنه لأنه يحمل تداعيات عميقة على اقتصاد الدولة، وأنظمتها الاجتماعية، وآفاق نموها المستقبلية.
ويؤثر التركيب العمري على كل شيء، من حجم القوة العاملة إلى الطلب على السلع والخدمات، ووصولًا إلى استدامة أنظمة الضمان الاجتماعي والمعاشات التقاعدية.
ويستخدم غالبًا الهرم السكاني لتفسير التركيب العمري للأمة، فمثلًا، تدل القاعدة العريضة للهرم على ارتفاع نسبة الشباب وارتفاع معدلات المواليد، ما يشير إلى نمو سكاني مستقبلي محتمل وقوة عاملة مستقبلية ضخمة.
وعلى النقيض من ذلك، يُشير الشكل الأكثر استطالة، حيث تكون الفئات العمرية المتوسطة والأكبر سنًا كبيرة نسبيًا، إلى انخفاض معدلات المواليد وزيادة طول العمر، وهي سمات مميزة للمجتمعات التي تعاني من الزيادة السكانية في الشريحة العمرية الأكبر.
ويمكن أن يشير التركيب العمري الشاب إلى "هبة ديموغرافية" محتملة إذا توفرت فرص عمل واستثمارات كافية في التعليم.
بينما يؤدي التركيب العمري المسن إلى تحديات تتعلق بدعم شريحة كبار السن المتزايدة بقوة عاملة أصغر نسبيًا، ما يؤثر على المالية العامة والإنتاجية الاقتصادية.
الذروة السكانية وتحدي "اقتصاديات الانكماش"
يشكل مفهوم الذروة السكانية (Population peak) نقطة تحول حاسمة في المسار الديموغرافي العالمي.
وتتراوح التوقعات على نطاق واسع حول موعد وصول عدد سكان العالم إلى ذروته، لكنها تتفق عمومًا على الفترة ما بين 2040 و2100، قبل أن يبدأ الانخفاض السكاني عالميًا.
وتعتبر هذه الظاهرة خبرًا إيجابيًا للبيئة على المدى الطويل، إلا أنها تثير تساؤلات جدية حول النماذج الاقتصادية الحالية المعتمدة على النمو المستمر، وما يترتب عليها من قضايا مجتمعية ناجمة عن التزايد الهائل في عدد كبار السن جدًا.
وتبرز الأمم المتحدة أن عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 80 عامًا أو أكثر من المتوقع أن يتضاعف ثلاث مرات، من 143 مليونًا في 2019 إلى 426 مليونًا في 2050.
وتترتب على ذلك ظاهرة "اقتصاديات الانكماش" حيث تصبح الاقتصادات العالمية، القائمة على نمو الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، عرضة للركود والضغوط، فمع تقلص القوة العاملة، يزداد العبء على نسبة أصغر فأصغر من السكان العاملين، ما يعني أن هؤلاء العاملين عليهم دعم نسبة متزايدة من كبار السن والمتقاعدين، ماليًا.
ويحتمل أن يؤدي هذا الوضع إلى تراجع الإنتاجية، وارتفاع الضرائب مع انخفاض حصيلة الإيرادات الضريبية، وتراجع الإنفاق الحكومي على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية.
ماذي يعني مصطلح الهيكلة السكانية؟
يصف نموذج "الهيكلة السكانية" (Demographic Transition Model - DTM) التحول التاريخي من معدلات مواليد ووفيات مرتفعة إلى معدلات مواليد ووفيات منخفضة في مجتمع ما مع تقدمه اقتصاديًا وتكنولوجيًا.
ويظهر هذا النموذج المراحل الأربع أو الخمس التي تمر بها المجتمعات لتصل إلى مرحلة الاستقرار أو الانكماش، ففي المراحل الأولى، تكون معدلات المواليد والوفيات مرتفعة، ما يؤدي إلى زيادة سكانية بطيئة.
ولكن مع تحسن الظروف الصحية والاقتصادية والتعليم، تنخفض معدلات الوفيات أولًا، بينما تظل معدلات المواليد مرتفعة لفترة، ما يؤدي إلى الزيادة السكانية السريعة.
ثم تنخفض معدلات المواليد في المراحل اللاحقة، ما يؤدي إلى تباطؤ النمو السكاني وأخيرًا استقراره أو انكماشه.
ويشير التحدي هنا إلى أن الإطار الزمني لهذا التحول، الذي يُقدر بين 2040 و2100 للوصول إلى الذروة، قصير إلى متوسط في الشروط الاجتماعية الاقتصادية.
ولذلك، فإن اتخاذ إجراءات الآن أمر ضروري لتجنب الأعباء التي ستواجه الأجيال القادمة، والتي قد تجعلها "مستعبدة اقتصاديًا" لدعم جيل آبائهم وأجدادهم، وهي مخاوف تتزايد في دول مثل اليابان، التي تعد مختبرًا حيًا لتبعات شيخوخة السكان في ظل انخفاض معدلات الهجرة والخصوبة.
وختامًا، فإن إدراك هذه المصطلحات الديموغرافية يُمكّننا من صياغة سياسات استباقية لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تفرضها علينا الزيادة السكانية والشيخوخة.











